أدمغة تعمل بإتجاه واحد

قلم ( كامل سلمان)

كثير من الناس ، عامة ومثقفين واختصاص تلاحظ تفكيرهم منشغل بأمر واحد وغير قادرين على التنقل بفاعلية لأمور أخرى بالحياة ، بمعنى أخر كابوس الشيء الواحد سلب منهم القدرة في الحفاظ على ديمومة الحياة بشكلها الطبيعي ، مثلا كراهية الطرف الاخر تجعلهم يعيشون أجواء هذه الكراهية على مدار الساعة فيصيبهم التوتر من كل شيء يصب لصالح الطرف الآخر ويفرحون بما يصيب هذا الطرف من سوء . وسعادتهم تكمن في الطرف الذي يحبون مهما ازداد سوءه ويفرحون اشد الفرح بكل شيء يصب لصالح الطرف الذي يحبون ويعيشون اجواء هذه الحالة ليل نهار ، فتجد كاتبا يكتب ضد طرف معين ، فتراه على طول الخط ليس له من قدرة كتابية او إبداعية الا ما يدور في هذه الدائرة التي يعيش فيها ، سني متطرف كل تفكيره ومتابعاته ضد الشيعة ، وشيعي متطرف كل تفكيره ومتابعاته ضد السنة وكذلك الكوردي والايراني والعربي المتطرف . وهذا يعني بمعنى اوضح ان هؤلاء الناس يعيشون في عالم مغلق هم فرضوه على أنفسهم وليست لهم القدرة في النظر الى الجانب الايجابي للطرف الآخر الذي يعادونه مهما كان حسنا فالكراهية قد غطت عقله وليست له القدرة في النظر الى الجانب السلبي للطرف الذي يميل إليه مهما كانت سيئة ، وكذلك من الصعب الانتقال الى عوالم اخرى فيها الابتعاد كليا عن هذا العالم المغلق ، يا أخوتي هذه هي مشكلتنا ومشكلة مثقفينا ومشكلة سياسينا نعيش عالم الاتجاه الواحد دون ارادة ومع ذلك نتحدث بالديمقراطية ونتحدث بقبول الرأي الأخر وبالأنفتاح ولا ندري بإننا ابعد مانكون عن الثقافة والديمقراطية واحترام الرأي الأخر ، نعم نستمع للرأي الأخر ولا نقوم بالرد ولا نظهر امتعاضنا ليس من باب قبول هذا الرأي او احترامه لأنه رأي إنسان وإنما من باب تبيان انفسنا بإننا نحترم الرأي الأخر وأننا ديموقراطيون ليبراليون ولكن في داخلنا غليان من الحقد والكراهية وعندما تحين الفرصة للانتقام فلا نتردد ان ننتقم بأبشع صور الانتقام ، ألم يكن هذا هو الواقع ؟ فهل نتخيل بأننا قادرون على بناء مجتمع صحيح بهذه العقلية المشحونة بإتجاه واحد ؟ الكلام هنا لا يخص الجميع .
السبب الاعمق لهذه العقلية المريضة التي تتسيد حياة وعقول افراد مجتمعنا هي نوعية الثقافة الاحادية التي تربينا عليها ، فمثلا الشيعي الذي تربى على كره زوجة النبي عائشة واصحاب الرسول ابو بكر وعمر يستحيل عليه ان ينسى هذه الكراهية لأن صورة الكراهية قد استحكمت في ذهنه . فبمجرد ان يتذكر مساوئهم التي يعتقدها تظهر كراهيته لا إراديا ، هذا ما تعلمه من البيت والشارع والاعلام والمشايخ وهذا ما ورثه من الثقافة الشيعية وهذا ما تشبعت افكاره به ، والسني الذي يعتقد بتبعية الشيعة وذيليتهم للعدو الايراني المجوسي دون استثناء ، هذا العدو اللدود المجوسي كما تعلمه من كتب التأريخ والاعلام والمشايخ والعروبة لا يمكن ان يحيد عن هذا التفكير فقد طبع على قلوبهم ، خذ مثلا الاعلام العربي لمدة قرن من الزمن او اقل يتحدث باللعنة على اسرائيل وتم نسب كل مشاكلنا في الماضي والحاضر والمستقبل الى اليهود وبني اسرائيل فتشبعت الادمغة بالكراهية لليهود فلم يعد بالامكان للإنسان المسلم العربي وغير العربي يتقبل محبة اليهود بالرغم من ان بعض اليهود هم السر وراء تطور الحضارة الإنسانية من علماء ومفكرين وفلاسفة تركوا بصمتهم الواضحة على كل العلوم الطبيعية والإنسانية وبالرغم ان اليهود هم اصل الديانات السماوية .
ما نسرده هنا ليس محل تفاخر لنا بل محل فشل وخزي وتخلف لا نستطيع ان نفارقه وليست لنا القدرة على معالجته لإننا أصغر من ان نعالج أنفسنا وما تشبعنا به ، وما نعاني من سوء احوالنا الا نتيجة طبيعية لضغينتنا وضعف سريرتنا وهيهات ان نخرج منها ! .
في الشارع العراقي اليوم مكونات شيعية مختلفة وكوردية وسنية ومكونات اخرى دينية وغير دينية ، كانوا بالأمس القريب حلفاء متحابين ليسوا متحابين في الله او في الوطن بل متحابين بالكعكة ( المقصود حلفاء بعد ٢٠٠٣ ). واليوم بدأ التثقيف كل ضد الأخر ، والتحريض كل ضد الاخر . وظهرت العداوة والبغضاء بينهم ، وستجدون بعد أشهر معدودة بروز نوع من الكراهية وعدم تحمل الطرف الاخر بين هذه الكتل وخاصة الشيعية الشيعية حتى تصل الحالة الى استحالة العيش سوية على هذه الارض وعندها سنسأل أنفسنا لقد كنا اخوانا فماذا جرى وننسى ان مكر الليل والنهار والتثقيف المضاد وتعميق الكراهية قد ظهر مفعوله السحري ، ننسى كل ذلك وكأننا الآن نزلنا من السماء الى الارض ولم ندري او نسمع ما جرى في الاعلام وفي الفضائيات وفي الصحف من الطعون المتبادلة ، هل كان كل هذا الشحن اليومي يذهب الى مياه المجاري ؟ مالكم كيف تحكمون. اقولها وعن يقين ان التصحيح وإلغاء الكراهية شيء مستحيل لإن العقول أخذت قوالبها ولن تتزحزح ، وكل مرض نفسي وعقلي جديد يضاف الى الامراض القديمة لا يمكن علاجه الا بالعودة الى جذور الامراض القديمة وهذا ايضا مستحيل لإن هذا يعني إلغاء تأريخنا كله ، فهل سمعت من أحد يستطيع فعل ذلك ؟ . نحن نمتاز بصفة غريبة وهي تشوقنا الى الماضي دائما بغض النظر عن سلبياته فله طعم خاص ونكهة فريدة ، ونعتبر الماضي محل تفاخر وتباهي ولكن كيف سينفعنا الماضي ؟ هذا ما لا نعرفه او لا نعرف كيف نستثمره ، فإذا ما مدح أحدا ماضينا فقد ملك عقولنا ، وإذا ما مجد أحدًا رمز من رموزنا التاريخية او الدينية او القومية فقد اشترى عقولنا وهذا عيب كبير تظهر مدى ضعفنا و انصياعنا للعواطف الموروثة وعجزنا عن إيجاد رموز افضل فالأمة الحية تكون ولادة للرموز ولا تكتفي برموز انقرضوا وهمها ان يكون حاضرها أفضل وأمام هذا التفكير أكيد سيكون مستقبلنا أسوأ ، فنحن اليوم نعيش المستقبل بالنسبة للأجيال الماضية وياليتهم يعلمون سوء هذا المستقبل الذي كانوا يحلمون به . اي مستقبل هذا الذي تهرب الناس من بلدانها طلبا للأمان وبحثا عن الكرامة فهذه وصمة عار لمن سبق ان يكون هذا هو المستقبل ، تغيير بسيط لنمط التفكير كفيل بتغيير المستقبل كله نحو الافضل . القدرة على قبول التنوع الفكري وخلع الكراهية بلا رجعة هو السبيل الامثل للخطوة الاولى نحو اعطاء الفرصة للأدمغة لكي تراجع نفسها وتعيد بناء نفسها بما هو خير لها وللناس .

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here