هوى العشق في دنيا كارل ماركس

هوى العشق في دنيا كارل ماركس، (*) د. رضا العطار

ولد كارل ماركس عام 1813 من اب يهودي يحترف مهمة المحاماة وكان قد تنصر سياسيا لا دينيا، لكي يقبل الزبائن على مكتبه.

التعريف بكارل ماركس فضول. فهو فيلسوف، وعالم اقتصاد وسياسي، ومناضل اجتماعي، وما لم يقله المؤرخون عنه، انه فيلسوف حكيم – – الفلسفة والحكمة لا تترادفان ولكن قد تجتمعان في واحد وتفترقان في اخر. فقد يكون الواحد فيلسوفا لا حكيما، وقد يكون الاخر حكيم لا فيلسوف، ومن طراز الاول، معظم فلاسفة اوربا منذ عصر اليونان، كانت فلسفتهم منطقية صارمة.

كارل ماركس فيلسوف بالشروط الحاصرة للفلسفة الاوربية الحديثة. وفلسفته فرعان، المادية الديالكتيكية، وهي فلسفة الطبيعة والميتافيزيقيا، والمادية التاريخية، وهي فلسفة التاريخ – – ولا علاقة للمادية الديالكتيكية، والدمج بينهما افتعال. فالشيوعية موقف اجتماعي. وقد يكون المرء مادي ديالكتيكي ولا يكون شيوعيا. وقد يصح العكس.

اما المادية التاريخية فهي فلسفة الانسان، والانسان مزيج من العلاقات المادية والروحية،

ولا نجد في كتابات ماركس سوى جذرها الاكبر : العمل الاقتصادي الذي يسير التاريخ.

وعندما نقرأ كارل ماركس، نقرأ كاتبا لا يهمل ظاهرة مؤثرة في الحدث المدروس، اقتصادية ام اجتماعية ام مادية ام نفسية ام روحية – – والماركسية عنده هي منهج المناهج وليست منهجا احاديا صارما كمناهج زملائه الغربيين التي تتحول دائما الى عقائد. من امثال المؤرخ الامريكي الشهير ارنولد تويني الذي لم يفارق مسلماته التي وضعها في جذر التاريخ واهمل كل ما عادها من مذاهب وآراء ونظريات. ولعل ماركس هو الوحيد الذي كان يتجاوز نظريته حين يكتب ويفكر بتأثير عقله الشمولي.

وهكذا يكون فهم كارل ماركس للطبيعة فهم مادي صارم ومضبوط، وليس كذلك فهمه للتاريخ. – ومن ثم كان ماركس ينظر الى الانسان بوصفه كائن مادي، روحي – لكن تجريد الانسان من حاجاته المادية على يد سلطة الدولة وسلطة المال جعل ماركس يركز على هذه الحاجيات اولا – – وهذا هو الامر المشترك مع اولياء الله كلهم. التفكير في حرمان الناس من حاجاتهم المادية. والنضال لاشباعها. وهم لذلك لا يمحضون اهمية للحاجات الروحية لعامة الناس لانهم يخشون ان تحدث بلبلة في تسلسل الحاجيات.

ان هذا ما يفعله رجال الدين – – اهمال حاجات الناس المادية والتركيز على الحاجات الروحية، حيث ينقسم الناس الى فقراء، يطلب منهم التعبد. وخواص يستلمون اجور خدماتهم الروحية الباهضة – – ويترك رجال الدولة والاغنياء ان يستوفوا النعيم المادي امتثالا لحكم الله : الزهد للعامة والنعيم للخاصة !

همنا في الكتابات الصوفية ايجاد الراحة للخلق واطعام الجياع.

حكيمية كارل ماركس تكمن هنا، العمل على ايجاد الراحة للخلق – وكان هؤلاء في زمانه هم العمال الاوربيون وكانوا ولا يزالون اكبر الطبقات يتشكل منهم السواد الاعظم. وعندما يتكلم ماركس عن الطبقة العاملة فانما يتكلم عن جمهور كبير، وهؤلاء هم الطبقة المحرومة. اما عندنا فلا يزال الفلاحون هم جمهور الناس، لان الراسمالية لم تدخل الينا – وقد حدثت بلبلة في توصيف الشعب والكادحين بسبب ذلك.

كتابة كارل ماركس عن احوال العمال في زمانه تصدر عن قلب يسوعي، يثير الالم على العمال والحقد على مستغليهم.

وعندما كنت اقرأ كتاب راس المال عام 1991 وانا في قبرص لمست فية تطلع هذا الرجل الى مستقبل الحلم الانساني، يسوده العدل والرخاء والحرية، حينها تذكرت هذين البيتين من لزوميات المعري وهو يقول :

كم وعظ الواعظون منا * * * وقام في الارض انبياء

وانصرفوا والبلاء باق * * * ولم يزل داؤنا العياء

وكانت هذه جرعة يأس عابرة عززتها كثافة الصواريخ المتساقطة على بغداد.

ينفرد كارل ماركس في تكامل مشروعه المشاعي فكريا واقتصاديا وسياسيا – فهو الذي اطلق هذه الحركة الشاملة التي انتظمت فيها ملايين الجياع في شتى القارات ودامت مئة عام، اقامت خلالها دولا اشتراكية الاقتصاد، وفرضت في بعضها مطالب على حكام الدول، ادت الى تحسين جذري في معيشة الكادح.

اما فيما يخص حياة كارل ماركس الخاصة، يقول الكاتب الموسوعي سلامة موسى :

كان اهل كارل، يعيشون في بلدة – تريف – الالمانية، المتاخمة للحدود الفرنسية

و كانت هذه البلدة كائنة على سفح هضبة تكسوها بساتين الكروم، تنتج أجود انواع الخمور، وكانت عائلة ماركس ضمن العوائل التي تصنعه – – – كانت ام كارل يهودية مؤمنة، تميل الى الهدوء والجري وراء العرف السائد، لكنها عاشت طول حياتها وهي في اشد حالات الحزن والأسى بسبب نزوع ولدها كارل الى الأفكار اليسارية الثورية. تعرضه دوما الى مطاردة الحكومات له اينما حل.

وكان يسكن بجوار منزل ماركس، المستشار الالماني البارون وستفالين. وكان الوالد ماركس قد تعرف على هذا البارون وصارا صديقين يتزاوران. وتعرفت عائلة كل منهما الى عائلة الاخر. وكان للبارون ابنة جميلة تدعى برتا. وقد شب كارل معها وقضيا عهد الصبا معا، فلما بلغا سن الشباب، احبها كارل ثم اخذ يحثها على الزواج منه، والح عليها في ذلك، وقد اظهر لها من الحب والاخلاص ما جعلها تقبل به.

و استطاع كارل بذكائه المعهود ان ينال شهادة الجامعة. فعزم على ان يحترف حرفة الصحافة، وتعين محررا في احدى الجرائد المحلية، لكنه لم يلبث طويلا، بسبب اسرافه في علم الاقتصاد السياسي وتطرفه في فكرة اليسار، مما اضطر اصحابها الى فصله من عمله.

وكان اهل الفتاة، في هذه الاثناء قد علموا بعلاقة ابنتهم بكارل، وصاروا يمانعون في عقد هذا الزواج، لكن اصرار العاشقين كان قد نسف موقف الوالدين، فقد كان الحب بينهما اقوى من شكوكهما، خاصة بعد ما انكشف لهما و للرأي العام الاوربي موقف كارل ماركس السياسي المتطرف، هكذا تزوج العاشقان عام 1843 على الرغم من استياء اهل الفتاة – – – وخرج الزوج بعروسته الى باريس مزهوا، فرحا، مبتهجا، وهناك تعرف على المفكرين الكبار من امثال برودون و باكونين و سان سيمون، وكان هؤلاء الاقطاب الثلاثة من عمالقة علم الأقتصاد السياسي في اوربا، فتشُرب ماركس بآرائهم، واخذت هذه الاراء تتطور في نفسه، تتكثف وتتبلور، حتى انتهت في تفتح براعمها عن الأشتراكية الحديثة.

لكن بعد ان اعلن كارل ماركس بيانه الشيوعي (مانوفست) من بروكسل عام 1848، اوعز قيصر روسيا انذاك الى حكومة فرنسا ان تنفي كارل ماركس من اراضيها، فقامت الاخيرة ونفذت الطلب، فعاش العريس حياة التشرد، يتخبط في ظروف اقتصادية خانقة، دائم التنقل من بلد الى بلد، لا ينزل مكانا حتى يرى البوليس قد احاطه من كل جانب، وانتهى به المطاف اخيرا في انكلترا، التي اصبحت وطنه الثاني بعد المانيا، وقد جاء في سجل الزائرين للمكتبة العامة في لندن ان كارل ماركس كان الأول من يدخل مكتبتها وأخر من يغادرها طيلة 35 سنة متوالية. اصدر خلالها كتابه الشهير (رأس المال) ، لكنه واجه مصاعب جمة في ايجاد دار نشر ترضى بطبعه.

ولم يكن يرفد حالته المعاشية يومذاك سوى جريدة التربيون الامريكية، اذ كانت تحوّل اليه جنيها واحدا كل اسبوع لقاء ما كان يوافيها ببعض المقالات. الى ان تعرف على فردريك انجلس صاحب معامل النسيج في مانجستر، الذي احتضنه ماديا ثم نصره عقائديا، فغدى صديقه الأمين

لكن قبل سفر الزوجين الى باريس، اراد اهل برتا ان يستبقوا بنتهم بينهم، كي يجنبوها المتاعب و الأخطار التي سيواجهها زوجها في مستقبله المبهم، بسبب مسلكه الشائك، لكن استجابة البنت جائت على عكس ما كان متوقعا، حيث ان برتا ازدادت بزوجها تعلقا واصرارا، واظهرت عزمها على ان تخرج وتتشرد معه، وتواجه نفس المصير الذي يواجهه هو، وذلك بدافع وعيها الصادق في ادراك مدى القدسية الزوجية، فتبعته اينما رحل– كل هذه المضايقات والمكايدات و شظف العيش لم تزعزع موقف الرجل يوما، مثلما لم تحرك هواجس الزوجة قيد شعرة. فالارتباطات الروحية بينهما والتي اتسمت بصفاء الوفاء وصدق النية كانت اقوى مما كان يتوقع.

ويضيف كاتب السطور معلقا : كانت الزوجة برتا، نموذجا حيا في التضحية، فقد كانت تعلم مسبقا، ان الشخص الذي تريد الزواج منه و تعيش معه طيلة حياتها، لم يكن بالانسان الأعتيادي ابدا، انه سيكون بسبب افكاره الثورية ملاحقا مطاردا ابد الدهر، كما انها كانت تعلم علم اليقين من ان كارل فردا فقيرا لا يملك من حطام الدنيا شئ. وقد تبقى حياته كلها على هذه الوتيرة او دونها، سمتها العوز والحرمان. انها كانت تعلم هذا كله. كما انها كانت تعلم ايضا من انها سليلة اسرة ارستقراطية عريقة، عاشت طفولتها وصباها في بحبوحة الترف، ورغد العيش وهي الان تجد نفسها في مفترق الطريق، ولكن ما السبيل ؟

كما انها كانت تعلم كذلك، ان هذا الرجل صاحب مبدأ، راسخ العقيدة، صلب العود، يسعى الى تحقيق رسالته، معتقدا انها ستحقق للبشرية حياة احسن، فلا عجب ان جاء حبها له مضاعفا — ولهذا لم تكن تتباغت، كلما طرق البوليس بابها وأقتحم منزلها، انها كانت تعلم ذلك وتتوقعه. لا بل كانت قد حسبت له حسابه واعطت له وزنه.

وعندما توفيت برتا، صاحبة هذا العشق الطاهر، ذهب الزوج المنكود، متطوحا من ألم الأسى برفقة اولاده الستة، يحملون جنازة امّهم على اكتافهم. يجرون انفسهم بأتجاه المقابر. الى ان وصلوا الى الموقع المحدد، فوضعوا النعش ارضا وتناولوا المعاول وبدوا يحفرون، وقبل ان ينتهي العمل، تقدم الأب المتصدع نحو القبر فاقدا توازنه فوقع في الحفرة متعثرا، فاصيب من جراء ذلك برضوض شديدة في اجزاء مختلفة من جسمه، جعلته طريح الفراش منذ تلك الساعة، لايقوى على مغادرته. و بقى يعاني من الآلام الجسمية و الروحية، تذكره باليوم المشؤوم الذي افقده شريك حياته برتا،

فقد كانت هذه الانسانة منبع سعادته ومصدر قوته، تستشيطه على العمل الدؤوب، انها كانت تعني بالنسبة اليه الواحة الخضراء، تلهمه خصب الخيال وتمهد له الاجواء الملائمة للدرس والأنتاج، انها كانت بالنسبة اليه، المؤنس والأنيس . . . وعلى اثر ذلك، غدا الرجل كسير النفس مقهور الخاطر حزينا متوجعا، فلم يعد في الدنيا شئ يثيره، بعدما ملأ الدنيا بصرخات المظلومين، فقطع صلته بالبشر، بعد ان حرك بكتاباته اذهان البشر، وانزوى في ركن من بيته، يقضي يومه في عزلة موحشة، وكأنه خارج دائرة الدنيا، فغدا بمرور الايام خائر القوى ضعيفا مبتئسا، يكرر ندائه للشعوب المسحوقة الى الثورة لنيل مطاليبها المشروعة. وبعد سنة من فقدانه رفيقة عمره برتا، انطفأت شمعة حياته عام 1883 لكن نيران ثورات الشعوب لن تنطفئ بل هي لا تزال مستعرة الاوار.

* مقتبس من كتاب مدارات صوفية للمفكر هادي العلوي مع اضافة لكاتب السطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here