فرات المحسن
حين هاتفهم قبل مجيئه إلى بغداد، كان ذلك قبل شهر من الآن، شعر بثقل الحنين يطغى على روحه مثل سحابة مضمّخة بالعتاب الجارح. سمع صوت والدته المثقل بالحزن، وهي تجهش بالبكاء وتدعو له بالسلامة، وتتمنى أن تراه وولده قبل أن يأخذها الموت. كان ذلك المساء نذيراً بهيجان شوق كُبت كل تلك السنين الخمس عشرة التي حسبها انطوت سراعاً، ليقف في هذه اللحظات مرتعشاً تملأ روحه الموجوعة موجة من غمّ ونكد ، فترك لدموعه الفرصة لتمسح ما تستطيع من هموم. وفجأة وجد نفسه يقرر السفر إلى بغداد.
طالعته سماء بغداد وهو غير مصدق عينيه. كان الغبار يفصح عن دَكانة كئيبة تغطي بناياتها، ولكن نهر دجلة لا زال في مكانه راسخاً يتلوى مثل أفعى. رغم الجزر المغطاة بالحشائش التي رقـّعت وجهه، كان يتمايل هادئاً كسولاً ذاهباً نحو أقصى الجنوب باتجاه الخليج. أصابته الدهشة وهو يرى هذا المنظر المرقّع بألوانه الداكنة المختلطة بغير عناية، عبر نافذة الطائرة. حلقت الطائرة بدوران حلزوني فوق المطار ثم هبطت بحذر شديد فوق المدرج. عند هبوطه سلم الطائرة لفح وجهه هواء حار خالطته ذرات رمل لاسعة، فرفع منديلاً ورقياً ليضعه فوق أنفه، ولكنه وجد أن العملية ليست بالسهولة التي يظنها، ليرفع معها حقيبته وفي الوقت ذاته يحاذر التعثر والتدحرج من أعلى السلم.
المفاجأة الأولى غير السارّة التي واجهته كانت عملية خروجه من المطار نحو بيت أهله في مدينة الكاظمية. فقد وجد صعوبة في الحصول على سيارة تقلـّه إلى هناك. وقف واجماً أمام الباب الواسع والعالي لمطار بغداد، لعله يجد من ينقله إلى هناك. انتبه لإشارة كان يلوّح بها صاحب سيارة حديثة فاتجه نحوه. حسم الأمر وقبل بالمبلغ الذي طلبه السائق. بعد بضعة كيلو مترات باتجاه المدينة أخبره السائق بأنه سوف يوصله عند نقطة عباس ابن فرناس القريبة، وهناك سيجد سيارات نقل كثيرة تذهب إلى جميع أحياء بغداد. حار بالإجابة، فالمبلغ الذي طلبه السائق ليس بالقليل، والسائق حسب الاتفاق استوفاه عن نقله إلى مدينة الكاظمية، وليس تركه في مكان تحكمه سيطرة عسكرية، وعليه أن يستقل من هناك واسطة أخرى. لم يتركه السائق في حيرة من أمره، فأوضح له السبب معللاً الأمر بارتباطه بواجب في المطار وعليه العودة بسرعة. وأضاف أن السيطرة الموجودة في موقع عباس بن فرناس سوف تمنعه من العودة مرة أخرى إن خرج إلى المدينة. أراد مناقشة الأمر مع السائق ولكنه سهم وفكر، إن كانت الخسارات لا تتجاوز أكثر من هذه الخدعة، فهي لا تعني شيئاً، وليدع الأمر يسير دون انفعالات وضجيج، فربما يتطور الأمر إن ألح، وفي النهاية إلى مشاحنة وخصومة لا يعرف نتائجها، وسبق له أن سمع عن حوادث راح ضحيتها أشخاص دون وجود ما يبرر حدوثها. وزيارته لأهله بعد كل تلك السنوات، مع ما يتوقعه من انفعالات الفرح والغبطة التي ترافق مثل هذا اللقاءات تجعله يهمل ويرمي بعيداً أي تفكير بإثارة مشكلة عابرة، يمكن حلها بواسطة النقود، لذا اقتنع وقبل بما فرضه السائق عليه، واستقل سيارة أخرى من نقطة تفتيش عباس بن فرناس.
استدارت السيارة واقتربت من منعطف الشارع القريب من بيت أهله. طالع البيوت التي رُصّت جوار بعضها البعض، وبدت ألوانها كالحة وجدرانها تعرت وظهرت أحجارها المنداة كبقع كبيرة متباعدة. سار بخطوات متعثرة وقدماه تقودانه داخل الزقاق. شعر بأن الشارع بدا ضيقاً وليس كما عرفه سابقا. تردد بعض الشيء ووقف أمام باب دكان صغير نطت بوابته من أحد جدران البيوت. كانت البيوت واطئة أسدلت ستائر شبابيكها، فبدت وكأنها تغلق نفسها أمامه على صمت مبيّت. شعر وكأنه يسير إلى لا مكان، وحيدا يختم على قلبه بقوة، مانعاً أكثر ذكرياته نشوة وفرحا من الطفح. حاول تشتيتها في تلك اللحظات المحرجة اللجوجة. اختلطت في رأسه أصوات عراك وقهقهات لصبية يختبئون خلف تلك الأبواب الموصدة. همس قوي رددته البيوت في وحشة تلك الأمسية الكالحة، فأحس بارتجاف جسده. ولكنه شعر ببعض طمأنينة حين أسكره عطر أشجار النارنج ورائحة الحشائش المنداة، ولون السماء بغيومها الرمادية التي تعكس ضوء الشمس الغاربة.
لم يخدع نفسه، فالشعور الذي أنتابه لم يكن إحساساً بعودة إلى وطن، فقد شعر بغربة قاحلة تلف روحه، وكأن قدميه تطآن المكان للمرة الأولى. كان الباب محافظاً على اللون الأخضر الفاقع ذاته، وكأن طلاءه قد جُدد حديثاً. ولكنه استغرب هبوط دكة الباب عن مستوى الشارع حيث بدا وكأن الدار برمتها قد غاصت نحو الأسفل. طرق الباب.
لفته زحمة ضجيج وتلقفته أياد كثيرة. أقارب ومعارف ووجوه يراها للمرة الأولى. عجائز وشيوخ، شباب وصبية، قبلات واحتضان، عتب وبكاء، شجن وحسرات، وكانت أمه قد تلقفته ولم تترك جسده يفلت منها. كانت رغم قصر قامتها وجسدها الناحل الدقيق تتعلق برقبته وتتشبث بها، وكأنها تقاتل الجميع دفاعاً عن حصتها فيه.
لعدة أيام ظل جالساً في صالة الضيوف لا يفعل شيئاً سوى استقبال الأقارب ومجموعة الأصدقاء والجيران، ما كان يفعله غير مطالعة الوجوه التي ضجت بهم أيامه، وهو يبادلهم الابتسامات ويهز رأسه شاكراً حضورهم وحسن وفادتهم وحرارة ترحيبهم وسماع تعليقاتهم. وكانت أمه تتلمس جبينه بين الحين والأخر وكأنها تمسد وجه طفلها حديث الولادة. كانت أصواتهم وحكاياتهم أشبه بصفير مكتوم يثقب رأسه، تتراقص وجوههم أمامه، تتأرجح وهي تروي حكايات عن علاقاتهم به، أو عما كان يحبه أو يكرهه، عن مغامرات وأفعال شعر بسماجتها أو افتعالها. كان يقضم الطعام معهم ويبعث ابتسامات بليدة يرسلها بمشقة نحو عيون تطالعه طيلة الوقت لتفتش في تقاطيع جسده.
لقد هزل الجميع، وبرزت عظام وجوههم وتحددت بتجاعيد دقيقة. جميعهم، حتى الصغار منهم، هؤلاء الصغار الذين شابوا بسرعة مذهلة، ولم يتركوا له ما يستطيع الاستدلال للتعرف عليهم. تلك الفوضى التي سادت البيت، مع حضور كل تلك الأعداد من الناس، ذكـّرته ببريغيتا وكيف كان صوتها يبعث في رأسه صدىً مخنوقاً لتجعل من المكان بيتاً لمصح عقلي.
لمرات عديدة أحس بالقشعريرة والخوف وهو يسمع رشقات الرصاص ودويّ الانفجارات، بالرغم من وجودهم حوله. كان في حالة من الذهول الدائم لقرب تلك الأصوات من المنطقة. وكان يراقب بخوف شبابيك الغرفة وهي تهتز بقوة مع كل انفجار، ولعدة مرات وثب من مكانه وهو يتحفز لدرء الخطر المجهول.
ما زال أمامه خمسة أيام. ومع مضي الأيام السابقات، استعاد بعض صحوته من صدمة ما شاهده وعرفه وسمع عنه، أشياء تبدو أكثر قرباً من الخيال. جاهد في الليالي الماضيات أن ينتزعها من رأسه دون جدوى. كان ينتظر، فمثل تلك الحكايات والأفكار والثرثرات، سوف تزول حتماً حين يجد نفسه قد عادت لتكون بينهم مثلما السابق، أو ليتعرف جيداً على طباعهم وحياتهم الجديدة ليتقبلها راضيا ثم يهضمها. إن مثل هذا الشيء يحتاج إلى وقت، وقبل ذلك إلى قناعة وهدوء وهو يمتلكهما حتماً، هكذا حاور نفسه.
كان يستيقظ كل ليلة ليسترق السمع في ذلك السكون الموبوء بنباح الكلاب وأصوات الصراصر، ورشقات الرصاص، وزعيق سيارات الشرطة والإسعاف ، ليل يسمى ليلاً، ولكنه يخلو من كل علاقة بتلك التسمية، فيدس رأسه في الوسادة المتيبسة مبعداً روحه عن ذلك الجنون، يحاول جرجرتها نحو شقته في مدينته السويدية مولندال وابنه سالم، وحديث الشجر في غابته الجميلة.
البارحة كان ليلاً طويلاً مميزاً، فقد سهرت أمه معه حتى ساعة متأخرة. كانت قبلاتها عطشى وكان حضنها وسادته اللدنة المحببة. للمرة الأولى، يشعر بأنه يستعيد شيئاً من الطمأنينة والحنان ويبعد كلياً الخوف عن روحه. سمع أصوات ضجيج سيارات الشرطة وإلاطلاقات النارية واهتزاز الشبابيك، ولكنه لم يشعر بالرعب مثلما في الأيام السابقة.
بتلميح ذكي نبهته أمه لزهراء. استدرجته في الحديث وهي تمسد شعره بأصابع يدها اللدنة، وكان هو يشم رائحة طفولته تلفع أنفه، متأتية من شالها الذي كلح لونه. ما زالت زهراء في خاطره، وهي قريبة من أمه بعد أن توفيت أمها. زهراء بنت خالته التي يكبرها بعامين، وكانا يتذاكران سوية أيام الدراسة، وكان قد لاحظ اهتمامها به، وتركيز نظراتها عليه. انتبه لذلك جيدا، وبدوره حفظ لها في قلبه ابتسامة بريئة طرية. ربما تعاد تلك الأيام، ولكن تمناها أن تكون على براءتها، شقاوة ومودة وأخوة بريئة. لا يدري ما تخبئه الأقدار. كان ذلك منذ ما قبل خمسة عشر عاماً مضين وأخذن معهن الكثير. هاهو قد جاوز الأربعين بتسعة أعوام، وهي ترملت مبكراً، عافها زوجها وذهب ضحية حرب لعينة، دون أن يترك لها ما يشيع في قلبها فرحا حتى ولو بسيطاً. أرملة وحيدة، وهي اليوم ذات سحنة سمراء داكنة بعض الشيء، منتفخة الجسد وعروق يدها ناتئة، وتبدو ذات بشرة مترهلة، رغم ما يظهر عليها من حيوية ونشاط، وما زالت تحتفظ ببقية من سحر شباب. ظن ذلك عند موعد الغداء،حين بادلها ابتسامة أوحت لأمه الكثير من الدلالات، فضغطت على ركبته، وتوشح وجهها بالرضا وابتسامة لها أكثر من مغزى. لذا كان حديث الليل طويلاً أقتصر على طباع زهراء وسجاياها.
في تلك الليلة شعر بأنه تعرف على ابنة خالته زهراء مرة أخرى. وجدها قريبة منه، ودودة، تعامله بفرح ومودة. كانت وكأنها عادت لتسأله المساعدة في شرح الدروس فيجيبها بعد مماطلة، ولكنها لم تكن لتيأس، وفي النهاية يقتنع فيشرح لها ما عصي عليها فهمه . كثيراً ما كان يصدق إحساسه، فبمجرد كلمة أو نظرة يجد أن ذلك ينطبع في قلبه وذهنه ليصدق الحال بعد ذلك دون جهد يذكر. زهراء بنظراتها تطلب منه ذلك، والآن فإن أمه تعرض عليه الأمر دون مقدمات. حين حديث أمه عن زهراء تحايل كثيراً وناور كي يغير الحديث الذي شعر بأنه غير مستعد للخوض فيه، أو إعطاء كلمة مناسبة في شأنه. ولكن أمه كانت امرأة صبورة لجوجة لا تتخلى عن هدفها بسهولة. كان يردد في سريرته لو أمكن صرف انتباهها إلى موضوع آخر، لكن إصرار الأم كان لا يتزعزع. لم يحر طويلاً بالأمر فبادرها بالسؤال:
ـ ألا يزال القارب عند الشاطئ.
ـ أي قارب ؟
ـ قارب الصيد الذي كان لوالدي.
ـ أجل، مازال هناك وقد أهمله خالك منذ عام. و أظنه في المكان عينه . ما الذي تريده منه ؟
ـ لا شيء .. أتتذكرين تلك الأيام حين كنت أشارك أبي في الصيد ثم أستخدمه في نزهاتي.
ـ أتذكر ذلك جيداً .. ولكن الظروف اختلفت يا ولدي .. حتى الصيد بات صعباً في ظل هذه الأوضاع.
ـ لا أريد أن أصطاد .. فقط أريد أن أعيد النزهة.. هذا الشيء بات غصّة في صدري. ما أجمل ما يعيد لي تلك الأيام.
ـ ولكن يا ولدي ليس من السهولة فعل ذلك..
ـ للمرة الأخيرة .. وليكن ذلك ذكراي العزيزة التي أحتفظ بها في غربتي.
ـ لست متأكدة، ولكن أسأل خالك عنه.. فربما لم يعد القارب صالحاً للاستعمال.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط