النهر يكتم أسراره / المشهد الثاني /ج1
فرات المحسن
كان اعتقادي أن واحدة من خزعبلات البشر التي يمكن إدراجها، أو أنا من يفضل تصنيفها في خانة الترهات الغبية ليس إلا. هو ذلك الحديث الطويل العريض عن القدر المفروض على وقائع حياة الإنسان وتصرفاته اليومية. فقناعتي كانت تامة بأن ليس هناك قدر مفروض، وإنما هناك وبشكل قاطع فعل متعمد. هذه القناعة التي حملتها لفترة طويلة، ودافعت عنها أمام آراء مختلفة لأصدقاء ومعارف، لا بل حتى أمام غرباء كانت تتهدل شفاههم دهشة واستغراباً ،حين يسمعون ما أفصح عنه في هذه المسألة الشائكة، وكنت دائماً مبشراً بوجود مادي للروح والجسد معاً، وليس هناك من انفصال بينهما، ولم أسمح لأحد أن يثلم ما كنت مقتنعاً به أشد الاقتناع، وأصبحت قضيتي أو فكرتي هذه أشعر معها وكأني أتفرد بها دون سواي.
اليوم أسجل في دفتري تأريخ التاسع عشر من حزيران 2005 . هذا التأريخ سوف يكون شاهداً على التغيير، أو هو الحد الفاصل بين فكرتين لم تكونا تنازعانني سابقاً، ولم أسمح لوجودهما مع بعض ولو لمجرد تفكير بسيط، وأن ينافس قناعتي حول تناقضهما. كنت حاسماً ومنحازاً في تفسير كليهما. ولكن مع هذا التاريخ أجد أن عنادي قد صرع بالقاضية، وتهشمت قلاعه وهوت مثل قصور رمل، لا بل مات وشبع موتاً، بعد أن وجهت له ضربة قاصمة ووضح معها خطل ما كنت اعتقده وصدقته كمسلمة لا تتزحزح .
دون مقدمات تغيّر كل شيء، دون سابق إنذار ودون أي جهد. لم أستمع لنصائح أو ينتابني كابوس مفزع. فجأة دون مقدمات، وجدتني ألوك خاطراً ملحاحاً يدفعني عنوة للاعتقاد بأن هناك روحاً شريرة جاءت من خارج جسدي، وبغفلة مني تلبستني، سيطرت عليَّ بالكامل، وأن سقم جسدي بات ناتجاً طبيعياً لعذاب روحي وأشجانها. أعترف أن هذا الخاطر غلّ عميقاً في داخلي، وأنا أنسحب منزوياً مبتعداً حابساً تلك الروح الرجراجة الهشة الممزقة في غرفة صغيرة بأثاث معدم. سرير واحد يصر عند إرخاء جسدي أو شده، ومنضدة تتكدس فوقها بعض الأغطية وتحتها صندوق حديدي يحوي مدخرات أمي التي أعتبرها مخلفات لملابس توحي رائحتها لزمن اندثر. فراش أمي فوق سجادة بالية يجاور باب الغرفة. مساحة الدار كانت الغرفة الوحيدة هذه، وفسحة إسمنتية تمتد أمامها نحو الباب الحديدي الخارجي. و كان هناك في زاوية من تلك الفسحة مستطيل ترابي صغير يجاور السياج الكونكريتي الخارجي، تصر أمي على تسميته بحديقة وتتلذذ بزراعته، ومعها كل الحق في تلك التسمية لو نظرنا للمحصول عند موعد القطاف، وبالذات حبات الطماطم القانية الحمرة المعلقة بغصون وأوراق خضراء، وما يضفيه المنظر من طراوة عند طرف المساحة الأسمنتية المغبرة.
في ذلك الوقت، كنت أشعر ببعض راحة وليس الوحشة بالمطلق. لقد سجلت كل حيثيات وشذرات ودقائق الأيام بقصاصات ورق أحتفظ بها تحت وسادتي. تحت ضوء الفانوس الكابي كنت أدون كل شيء ولم يفتني مشهد ما. لقد ركزت جهدي على توصيف التغيرات الجوهرية التي طرأت على فكري، وأيضاً ظنوني وتحفظاتي وكرهي للوقائع، وكيف واجهت الصدود والعدوانية من أناس كنت أستمع لوعودهم وتصريحاتهم فتسبغ على أمالي الكثير من الغبطة والفرح.
أعرف أن تدوين الأحداث نوع جيد من الخداع، يساعد على تزجية الوقت والسيطرة على الروح، والأكثر من هذا يبعد ولو لقليل من الوقت، القلق والضجر عن النفس بنوع من المماحكة الصعبة. ولكن لحظات الكتابة، في أغلبها، لم تكن لتعينني على إفلات روحي من قيد خيبتها ويأسها المحكم والتفكير بما يخبئه أو يكون عليه مستقبلي.
*****
كان ذلك يوماً مختلفاً. فجأة سمعت طرقاً على الباب الخارجي، ثم صرير الباب الحديدي الثقيل وهو يوارب. بعدها صوت خطوات ثقال على أرضية الفسحة المقابلة للباب الداخلي. رفعت رأسي عن الوسادة وطالعت صورة القادم، وأخيراً كان صوته الأجش بفخامته المزعجة الثقيلة، التي تطرق الأذن وكأنها صوت مزمار صدئ لحافلة نقل ركاب قديمة متهالكة، قادمة من خلفك، أو نهيق حمار يغافلك ليضع شفتيه الغليظتين قرب راسك ثم ينهق بأعلى صوته.
ـ خالد ….لك داد خالد …خلودي أني ابن عمك وهاب.
أجبته بتثاقل دون أن أحرك جسدي.
ـ شتريد ؟
ـ أخوية أبو الخلود .. جا وين حجيك ذاك …وين زماطك ؟
ـ شتريد ..لتداهرني تره اسبك واسب الكون كله .. خليني بقهري وروح شوف غيري تسولف وياه.
ـ عيوني أبو الخلود …حجاية زغيره وأروح ..والله أريد أفيدك.
حركت جسدي فشعرت ببعض الغثيان، ثم استقامت قامتي فتوجهت نحو باب الغرفة وفتحته.احتضنني وهاب بقوة شعرت معها بأن سلسلة من عظامي بدأت بالصرير والنواح فدفعته جانباً.
ذاك اليوم زرعها هذا الملعون في رأسي مثل علة شيطانية، بدأت تتسلل بين أوردة جسدي وشراييني. ماضية في رواحها ومجيئها، هازة كياني مقلقة وضعي، مربكة تفكيري الذي كان في قمة عجزه وهشاشته. شطرت روحي لا بل شظتها إلى بقع متنافرة متباعدة.
من أين له هذه الأفكار هذا الوهاب الخبيث ؟ ليتني لم ادعه يدخل الغرفة تلك الساعة. لو أني أخبرت أمي سلفا، وطلبت منها منعه من الدخول. هذا الوحش الكاسر دفع بي وحشرني وسط متاهات لا قرار فيها.لا بل كان مبيتاً لنية أن يراني بعدها مضرجاً بدمي أو مقيداً بالسلاسل. كانت نواياه الشريرة محسوبة بدقة وعرف مسبقاً ما يريد أن يصل إليه.
يا ترى أتكون صفات البغض والخبث متوارثة مع الجينات! إنه يحمل الكثير من طباع أبيه. ذلك الوحش الكاسر الذي سام أبي مر العذاب قبل أن يُقتل. أتذكر ميتته البشعة حين وجدوه ممزق الجسد مضرجاً بدمائه دون أن تتعرف الشرطة على قاتليه، وكثر الهمس حول الأسباب ولكن دوافع القتل ظلت تلوكها الألسن متذكرة معها مساوئ كثيرة كان يتمتع بها عمي.
سهمت وأنا أستمع لحديث وهاب، بكلماته المتسارعة الضاجة، وهو يمازج الجد بالهزل، ولكن نبرة الإقناع والاقتناع جعلتني أصغي إليه بوجل.
ـ خالد حبيبي..يمته خلصت جامعة ؟
أجبته بتململ وضجر..
ـ شنو متعرف.
ـ أعرف .. بس جم سنة صار وانته أدور على شغل؟
ـ وأنته شنو..صاير حنين.
ـ مو خمس سنين كافية تلف بيه بين شغل يوم وعشرة بطال.
ـ ليش أني لكَيت شغل ثابت وتبطرت عليه ..حته شرطي ردت أصير ..رادو مني دفتر…كَلي مخلص الحجي شتريد..
ـ أنته مو جنت مدرب للسلاح بخدمتك العسكرية؟
ـ أي جنت.
ـ تعرف كل شي عن قطع السلاح ..كل أنواع السلاح ..مو؟
ـ أعرف، بس شنو دخل هذا بالموضوع..شنو تريد تكول ؟
ـ أوكي حبي..أريدك تشتغل ويانا.
-ـ شنو أشتغل أوين وأنتم منو ..؟
ـ دون لف ودوران…أحنه نشتري ونبيع الأسلحة…شغلتك سهلة.. بس فحصها واستلامها وتسليمها..
ـ هيه هذه شغلة …هاي مغامرة خطرة وجبيرة وكسران ركَبة..
ـ صحيح ابن عمي.. مغامرة ولكن فلوسها تستحق المخاطرة موشلون ماجان..فكر زين، مسؤوليتك مو صعبة سلم واستلم وأبوك الله يرحمه..بعدين راح تشوف شلون حالك يتغير وتلعب لعب بالفلوس..فكر زين وباجر أمر عليك..مزمز وراح تدعيلي طول عمرك.
انسل مثل الزئبق عبر باب الغرفة وتركني مصعوقاً حائراً يلف رأسي دوار غريب. لم يكن هناك من منفذ، فكلماته واضحة اندفعت نحو رأسي مباشرة.رأسي الذي حشي بالضجيج واعتمر باليأس.عقلي الذي بدا هشاً مشتتاً، ولكني وبعد أقل من يومين حسمت الأمر.
مضت على تلك الواقعة بضعة أسابيع كنت فيها مثل المهووس المجنون. فقدت فيها الشحيح مما في قلبي من ود ومحبة لعالمي وما يحيط بي. ما عاد يعنيني ما يأتي به اليوم القادم بقدر ما كنت أشغل نفسي وأغلها في لهو يومي لا يهمني فيه إن كان مناسباً أو غير مناسب لشخصي. أتنقل من مكان إلى أخر، أحمل قطعة السلاح أفحصها ثم أسلمها لشار أو أتسلمها من بائع. ولم أكن في كل تلك المقابلات للتسليم أو الاستلام أهتم بشخصية من أقابلهم، رغم ما كنت أحمله من مشاعر تهيب وتوجس وخوف وحذر. كان وهاب بدوره يهيئ ليَ ما تحتاجه العملية ويعطيني النقود بعد انتهاء المهمة.ويردد دائماً:
ـ ها أبو الخلود..شلون الأجواء؟
فأجيبه بنفرة وضجر:
ـ الكالة أخت المداس ..وضاع الداس ياعباس..سلم الفلوس أو ولي عني ..
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط