ولادة أجيال ليلة الغلطة من غرفة عشيقة كولونيل الفستان الاحمر

حمزة الحسن

في فجر يوم السابع عشر تموز عام 1968
كان تاريخ العراق يُصنع
في غرفة حمراء بين كولونيل حامل مفاتيح القصر الجمهوري
وبين عشيقة فاتنة في شقة منزوية في عاصمة الرشيد،
في حين كان الانقلابيون على أبواب القصر حسب موعد
مسبق وقد بزغ الفجر وليس هناك أي أثر لكولونيل المعدة وما تحت الحزام كما يُلقب سعدون غيدان في جلسات كبار الضباط على ذمة حسن العلوي،
وتلك واحدة من كثير من الحوادث التي لا يذكرها المؤرخون،
التاريخ السردي المخفي والمسكوت عنه الغاطس في التفاصيل
لان تاريخنا رواية سلطة واحزاب وجماعات متحيزة
وهو تاريخ مروي رغبياً،
وأما التاريخ القديم فالغالب عليه أنه تخيلي.
تأخر قدوم الكولونيل سعدون غيدان عشر دقائق تقريباً
وتلك الدقائق العشر هي التي عصفت بالعالم وصنعت احداثا كبرى
بل نحن اليوم نعيش نتائج ليلة الكولونيل العقيد الحمراء
والتاريخ ليس دائما يتشكل من اسباب ومقدمات ونتائج وحتميات
خاصة تاريخنا حيث تلعب الحماقات دورا في صنع تاريخ .
فكر الانقلابيون بالانسحاب خوفاً من الانكشاف،
وكانت عقارب الساعة تقرع الرؤوس كالمطارق،
حسب شهادة الاستاذ صلاح عمر العلي في حوار هاتفي
مطول بيننا يوم كان رئيس تحرير جريدة “الوفاق ” المعارضة في لندن،
وهو أحد انقلابي ذلك اليوم وشاهد على الحدث.
تلك اللحظات كان الناس غارقين في النوم كما اليوم،
لا شيء يلوح في الأفق أن حدثاً عاصفاً سيغير تاريخ العراق،
وغرفة العشيقة الحمراء تشع بالاغواء،
وحضرة الكولونيل بعد تلك الليلة المرهقة،
وزجاجة الويسكي الفارغة على الطاولة الصغيرة،
مُستنزف الطاقة ويوشك على النوم،
بل نام ونسي تماماً ساعة الصفر مع الانقلابيين،
وكيف يتذكر ساعة الصفر وهو أمام هذا الجسد الباذخ
المشع كرخام أبيض ينزلق فوقه ظل ناعم؟
أيهما أفضل النهوض للمشاركة في صنع تاريخ،
أم النوم الى جوار جسد بهي والمشاركة في صنع بهجة؟

تاريخنا عبر العصور واليوم لا تشكله صراعات التاريخ الكبرى ولا الحتميات ولا السنن،
بل تشكله صراعات الاستهتار والنزوات والحماقات والصدف،
كما حدث في الماضي وكما يحدث اليوم وسيحدث غدا بل في اية لحظة،
لاننا لم نحدث قطيعة معرفية وفكرية مع الماضي البعيد ولا الماضي المستمر،
واكتفينا بالبلاغة والفصاحة والانشاء اللغوي الباهت والمسطح.

كانت الجماهير نائمة تلك اللحظات كما اليوم،
المثقفون عادوا من الحانات بعد منتصف الليل كالعادة،
بعد ثرثرة لا تنتهي عن الريادة الشعرية وقصيدة النثر،
وعربة يجرها حصان تحمل الشاعر جان دمو وسركون بولص
مستأجرة للمزحة من شارع فرعي في البتاويين
كملوك سكارى يتجولون في عاصمة الوهم،
في حين كان الشاعر عبد الأمير الحصيري قد إنتهى تواً
من التبول في الغبش الأزرق الذي يسبق الفجر
على جدار فندق السفير في شارع أبو نؤاس،
وكان الحصيري مغرماً بالواجهة الزجاجية المعتمة
للفندق وهي واجهة شفافة بالأزرق الفاتح تلوح كملاذ
من صيف بغدادي مهلك وقيظ مشتعل
وكان لا يملك مكانا للنوم غير مصطبة في حدائق شارع ابو نؤاس قرب مقهى عزاوي
ومقابل عمارة وكالة الانباء العراقية سابقاً
وهو يطرد أي شخص يجده جالساً عليها خاصة في أصياف بغداد الساخنة
وهي مساحته الوحيدة للنوم والحلم والانين
ومرة وجدني في منتصف نهار صيفي قائظ وملتهب نائما فوقها وهي تحت شجرة
كما لو انني ارتكبت خطيئة في النوم بلا اذن في قصر لويس السادس عشر.
كما لو قرع ناقوس في رأس كولونيل السراويل الحمراء،
دق جرس غامض واشارة قادمة من قيعان اللاوعي والعقل الباطن
عن موعد مر وانقلاب وشيك ومفاتيح يجب أن تُسلم لانه كان امراً في الحرس الجمهوري.
جفل فجأة وأرعب العشيقة النائمة وهو يردد:
” فات الأوان، فات الأوان”.
من الممكن أن ينسى الشخص مفاتيحه أو حافظة نقوده لكن أن ينسى
ساعة صفر لإنقلاب فأمر خارج المنطق إذا كان منطق في تلك الوقائع الغريبة
وفي تاريخ العراق الذي تصنعه الحماقة والنزوة والصدفة عادة بلا سياق
ولا تسلسل كما حدث في الماضي وكما سيحدث في اية لحظة اليوم.

وقبل ليلة الانقلاب على الزعيم قاسم في الثامن من شباط 1963،
كانت راقصة ملهى تعرف بساعة الصفر من خلال عشيق ضابط انقلابي متوله بها،
في حين كان” الثوريون الرؤيويون” الذين يشمون الخطر على مبعدة أميال
كما تقول كراريس تلقين الببغاوات،
يغطون في نوم الوعي ونوم التاريخ ويسحلون في الصباح
في الشوارع ويقتلون كصيد الساحرات في أوروبا في القرون الوسطى.

فشل المثقفون والمؤرخون وكتاب البلاغة والثوريون في استشراف اليوم القادم في حين
نجحت مومسات الليل والراقصات والعشيقات السريات في الرؤية والتوقع ومعرفة مصيرنا
كما يحدث اليوم وغدا. لأن العقل السياسي الرث نفسه سلطة ومعارضة،
بلا رؤيا ولا برنامج عدا فكرة خالدة في دورة مكررة بين ضحايا وجلادين وهي:
السلطة عقار ومُلكية وحيازة والثروة غنيمة حرب والشعب قطيع أسرى معركة.

تلك اللحظة في الفجر كان الرئيس عبد الرحمن عارف
يغط في نوم عميق بعد ثلاث العاب شطرنج
مع أمر وحدة الحماية الخاصة خسرها جميعاً،
ولم يكن يعرف الرئيس أن آمر الحماية هو مشارك في انقلاب الفجر،
وكما لو أنها نبوءة قال الرئيس وهو يسترخي في كرسيه:
” أن يموت الملك أفضل من التضحية
بحياة جنود أوفياء ولو في لعبة شطرنج”.
جفل آمر الحرس من هذه العبارة كما صرّح لصحيفة محلية يوماً،
فسرها أول الأمر تلميحاً حاداً لدوره في الانقلاب،
لكنه غرق في نعاس عميق وتهدل راسه فوق الكرسي،
وتلك كانت المرة الأخيرة التي يتهدل راسه فوق الكرسي الرئاسي.
قبل أن يشحن في طائرة الى المنفى في سراويل النوم
وقد رافقه الى المطار صلاح العلي نفسه
وكان الرئيس المخلوع يردد في الطريق:
” من أنتم؟”

العبارة نفسها التي سيرددها العقيد القذافي وغيره أيام الغليان،
لأن هؤلاء لا يعرفون من يحكمون إلا من تقارير الأمن والمخابرات الملفقة.
في اللحظة الأخيرة هبط سعدون غيدان من السيارة
مترنحاً وإحتاج لحظات لكي يتوازن ويمشي،
وكان يتأرجح كتاريخ مضطرب على وشك التشكّل،
وكل خطوة من خطواته كانت تعلن ميلاد جيل ليلة الغلطة:
الجيل الذي ولد تلك اللحظات في غرفة حمراء،
من تزاوج الغفلة والتاريخ المغلق وثقافة العطب والخفة والغطرسة:
أي حضارة تلك التي تتهاوى بحفنة مسدسات،
ودبابة عاطلة لكي تعلن ولادة المذبحة المستمرة؟
ليلة كولونيل السراويل الحمراء الذي مات برتبة فريق ركن،
انتجت وطناً يشبه المسلخ،
من الحروب الى الحصار والاحتلال والارهاب،
والطريق المجهول الذي لا أحد يعرف كيف ومتى ينتهي،
لكنه سينتهي بالارتطام الأخير:
متى يحدث الارتطام الأخير لهذا القطار الذي مات سائقه
بركابه النائمين ؟

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here