ليس الجنرال في متاهة

حمزة الحسن

كنت في المغرب عام 2016 في الشقة الريفية المنعزلة،
في صيف مغربي آسر ومدهش،
خارج الدار البيضاء العاصمة التجارية المكتظة بسبعة ملايين ساكن
عندما وصلت رسالة من شخص يقول:
” الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي يريد الحديث معك”.
” من حضرتك لطفاً؟”
” أنا مساعده”
كانت معارك الموصل في ذروتها وحرب شوارع،
وتحت الاقمار الصناعية ومراكز الابحاث والمؤسسات العسكرية والمخابرات
لمعرفة كيف يمكن لجيش نظامي أن يدخل أزقة ضيقة
مع تنظيم إنتحاري ومتوحش وكانت اسرائيل خاصة تراقب
الوضع بدقة لكي تستفيد يوماً في معركة غزة.
ثم جاءت المكالمة الصوتية مع الفريق الركن الساعدي وكانت مفاجأة غير متوقعة،
وكنت قبل ذلك أتابع عن كثب معارك تحرير المدن،
وكنت أراه في الصيف المهلك
تحت ظلال العجلات يتناول طعامه مترباً،
أو في وحول الشتاء عندما ينسى دوره كقائد جيش ويقوم
بدور المنقذ للاطفال حتى ان رئيسة وزراء بريطانيا كتبت عنه مقالاً
قالت فيه إنه من النادر أن ترى جنرالاً في حرب يساعد الأطفال.

وكمحارب قديم في حربين: سبع سنوات حرب عصابات في الجيال مع الجيش وثماني سنوات في حرب الخليج الاولى أعرف معنى الحرب
وويلاتها الخفية.

كان الرجل بسيطاً ومتواضعاً حتى تشعر معه بصداقة قديمة،
وكنت خلال الحوار أسمع أصوات الرصاص،
وشخصاً يتحدث معه كل مرة،
وقال لي إن الدواعش لا يبعدون عنه سوى مئة متر تقريباً،
ويستطيع سحقهم في ساعة ولكن……لكن القرار…..الخ الخ.

وخلال حديث طويل ومتشعب تحدث هو عن تفاصيل كثيرة
تتعلق بالحرب وقضايا أخرى،
وشعرت بحزنه لكل ما جرى في الموصل وفي غيرها،
وعكس ما يظن البعض لم يكن سعيداً بكل هذا الدمار،
ولم يتحدث عن نصر لأن النصر الحقيقي في بناء
وطن وماذا ستفعله السياسة بعد التحرير وخاصة هو أستاذ الاستراتيجية
في كلية الأركان وقبل الاحتلال،
لأنك قد تكسب الحرب وتخسر في السياسة وهو ما حدث.

ورغم الكلمات المبتورة أحياناً والمشفرة أحياناً أخرى
عرفت الكثير عن ما يجري في الميدان لكن المجالس امانات،
وانتهى الحوار على أن نتواصل وقد حصل ثانية من خلال شاشة،
وانطباعي الخاص ان الرجل لم يكن مرتاحاً من طريقة إدارة
المعركة وكانت عنده وجهة نظر مختلفة في تحرير المدينة،
لكنه في النهاية وممن لا يعرفون الحقيقة ومن خارج الميدان،
ولا دهاليز السياسة سيتحمل أخطاء الآخرين لأنه كان في الواجهة،
وخاصة في مجتمع سريع الاحكام بلا معرفة الظروف والتفاصيل وثقافة الوصم والغوغأة.

كنت أقول له:
” كن حذراً من رصاصة من الخلف”
” كل شيء متوقع”.

العبارة نفسها التي قلتها للعقيد الركن بارق الحاج حنطة يوم كان امر لواء قوات خاصة 66 في معارك سدي كان في الجبال،
وصمت بارق طويلا ثم قال:
” لا أخاف إلا من رصاصة من الخلف”

كنا كأصدقاء طفولة نتحدث بلغة مشفرة وعندما قلت للساعدي ما قلته لبارق قال :
” كنت مساعدا للواء قوات خاصة 66 في كلار وبارق الآمر وكان يقول لي ونحن أصدقاء العبارة نفسها: لا أخاف إلا من رصاصة من الخلف”.

جاءت تلك الرصاصة” من الخلف” في نيسان 1991 واعدم بارق برتبة لواء ركن مع ضباط من القوات الخاصة بتهم ملفقة للتخلص منهم. كان هاجس القتل من النظام.

قال جنرال أمريكي للساعدي، ضاحكاً، بعد تحرير الموصل وهو يضع يده على كتفه:
” توقعنا أن المعركة ستستمر سنوات،
لكنكم خربتم علينا الشغل وحسمتم الامر بأسرع وقت”.

إدارة الحرب والمناورة وليس الحسم وهو الاسلوب المتبع في إدارة الأزمات
السياسية أيضاً حتى اليوم.
بعد التحرير عاد الى بغداد ولسبب ما تم عزله،
وفي المكالمة الأخيرة قال إنه يتحدث من داخل البيت،
ولم أطرح أي سؤال يتعلق بوضعه الخاص الذي كنت أعرفه
من مكان ’آخر لحساسية الاتصالات وشعرت بالالم وأذكر أنني قلت:
” قد لا يكون ذلك هو الأسوأ”.

عندما أقرأ أحياناً مقالات سلبية ضد الساعدي،
أشعر بوجعين:
الأول: إقتربت من الرجل وطريقة تفكيره ونبله ووطنيته وثقافته ولا يستحق هذا التسرع.
الثاني: وهو الأهم هو أنني لا أستطيع الكلام بتفاصيل تلك الحوارات الاستثنائية،

تلك الحوارات على خلفية الاضطراب وتداخل مصالح الدول والصراعات المحلية،
ستكون عملا روائيا يمزج بين التوثيق التاريخي والتخيل.

نحن أمام تاريخ وحاضر لم يرو بصدق وكل الحديث يدور في الهوامش والسطح لان الخطاب السياسي السائد يفتقر للفكر
والغوص في جوهر القضايا
والمازق هو فكري وثقافي ومعرفي
لكنه ظهر في مظهر مخادع كمازق سياسي والثقافة السياسية منذ القرن الماضي وحتى اليوم من اختصاص اللغة الشاعرية والنفخ
والاستعراض لان هذه كل حدودها: جعجعة بلا طحن، وطلق بلا ميلاد، وتراكم انشاء مدرسي لاثبات المكانة وليس للبحث عن
حلول او حوار معرفي ينتج بالتراكم ثقافة جدية،
والويل لمن يفكر من منطقة تفكير مختلفة في وعي قطيعي سلطة ومعارضة،
لان ثقافة السلطة كعقل معارضيها لا تسمح بالمنافسة لأن الحقيقة والشرف والتاريخ والسياسة
من اختصاص ” أهل القلم”
وهو منطق الايديولوجيا ومنطق العصابة أيضا وحسب بول ريكور :
الزمان محجوز والمكان محجوز،
ولا انصاف حلول ولا تسويات ولا مناطق رمادية: إما الكل أو لا شيء، إما الدمج أو التصفية الجسدية أو الاخلاقية.

يستحق الساعدي كل الاحترام والتقدير والاعتزاز،
وكل ما أقوله أعطوا الوقت وقتاً.
الذين في الميدان بين الموت والحرائق والجثث والخطر والطقس الحار والشتاء القارص
غير الذين يثرثرون في المقاهي
والذين يواجهون الموت غير الذين يتفرجون
ومن يخطط للحرب غير من يعلق
وأغلب الضجيج يصدر من الذين لا يحاربون بتعبير جورج أورويل.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here