رسل صدام الاثنا عشر

رسل صدام الاثنا عشر
حمزة الحسن

” أخي حمزة الحسن: صدام حسين ظاهرة عراقية تاريخية سياسية اخلاقية على مر العصور” ـــــ من رسالة للمرحوم هادي العلوي لنا في السجن الباكستاني 1989,

بلا فهم من هو صدام حسين
سيبقى الجزء الرئيس من التاريخ العربي
الاسلامي مخفياً،
وابعد من ذلك سيبقى الحاضر والمستقبل غامضاً لأنه خلاصة تاريخ السلطة
وعلاقتها بالمجتمع ولقد ضاع صدام الحقيقي بين المدح والذم،
وهي الثنائية السطحية التي نرى فيها كل الظواهر حتى انفسنا.
وقبل ان يكون سجين قصره كان سجين اوهامه وافكاره النمطية الصلبة المقولبة
مثلنا تماما ويحتاج الى قراءة مختلفة لاننا بدون ذلك سنسلك الدروب الملتوية الوعرة الخطرة
كما نفعل اليوم وغداً.
قراءة صدام تحتاج الى عقل هادئ يرى من خارج منطقة العطب وهو أمر صعب.
يكمن التاريخ والحقائق في الزوايا المنسية
وفي التفاصيل الصغيرة المهملة،
ونادرا ما يركز المؤرخون على ذلك،
خلف الواجهات والخطابات والاعلانات تنام الحقائق تحت الظلال المعتمة،
وهذا هو مجال عمل الأدب والفن.
هل عرفنا من هو صدام حسين كما هو الذي صنع حياتنا في الماضي والمستقبل؟
أشك في ذلك عدا الوجه العلني للدكتاتور،
لكن خلف هذا الوجه تكمن وجوه عدة وأقنعة،
وخلف هذه الأقنعة إصطاد كثيرين عبر نسيج العنكبوت.
صدام حسين ليس هو نفسه في كل المراحل في الاقل في الظاهر،
لكننا حفظنا له وجهاً واحداً،
وكما وقعنا جميعاً في ثنائية كراهية وحب صدام،
وإنقسمنا الى فريقين وأكثر،
وقع حراسه الأمريكان في غرامه في الفخ نفسه الذي نجره لنا،
والأقنعة نفسها لكن محورة حسب الظرف.
صدام حسين السجين ليس صدام حسين الطفل المشرد وليس هو الشاب المسلح
الملئ بالعنف والضغينة ضد مجتمع لكنه وجد في الايديولوجيا غطاءً لاخفاء شخصيته
ورجل الاغتيالات وشقاوة الشوارع،
وليس هو النائب وليس هو الجنرال والمحارب والرئيس وزعيم الحزب والشاعر والروائي،
وليس هو المهزوم في الحرب والسجين،
والعزل والفصل بين هذه الشخصيات هو من خلق اختلاف زوايا النظر له،
لكنه خلطة من كل هذا التعدد في الشخصيات وما خفي أعظم.
العقدة القاتلة التي خربت حياته وحياتنا من بعد في كونه مزج بين تقاليد شقاوات الشوارع
وبين الايديولوجيا السياسية ونقل تقاليد الاولى الى الثانية،
ولم يخرج من تلك العقدة حتى النهاية رغم الفرصة الهائلة له في المراجعة.
في مجتمع القمع تتشظى الشخصية multiple personality disorder حسب علماء النفس الى عشرات بل مئات الشخصيات المتناقضة جداً داخل فرد واحد،
للتحاشي او الخوف والحيل،
ويتم الانتقال الفوري من شخصية إلى اخرى بسلاسة حسب المكان والظرف
والقوة والنفوذ والخ وبلا وعي أو توعك،
لكننا لا نلجأ للعلوم في التفسير لكل ظاهرة عدا اللغة السياسية الانشائية العاجزة،
وسواء رغبنا في سماع ذلك أم لا،
لكننا نتعامل مع بعضنا من خلال أقنعة وحوارنا حوار أقنعة.
صدام حسين مع الطباخين والحدائقية والحلاقين والسواق شخصية مرحة متساهلة
لأنهم لا يشكلون تهديداً له،
وفي مذكرات بعض هؤلاء كل المدح له،
لكنه مع الجنرالات ورفاق الحزب والناس يظهر بقناع الغطرسة
وفي مذكرات هؤلاء كل القدح والذم له،
لا الصنف الأول عرفه ولا الثاني لأن كل طرف رأى الوجه الواضح المباشر
وهو غاطس في السرية ،
هو الدرس الذي تعلمه من ميكافيلي في أن على الحاكم أن يشيع الخوف،
لأن الإحترام يغري بالتجاوز.
عندما قال المرحوم هادي العلوي إن صدام حسين ظاهرة عراقية على مر العصور وحتى اليوم وهو أستاذ التاريخ الاسلامي وأفضل من كتبه من منطقة تفكير مختلفة،
فهو كان على صواب وأثبتت الأحداث أن النسيج الاجتماعي والسياسي والتاريخ
والتراث والثقافة والعقلية قادرة على إنتاج غيره،
لأن البيئة والرحم والحاضنة والمناخ العام هو نفسه
ولم تحدث قطيعة معرفية مع الماضي القريب ولا مع التاريخ
والقطيعة لا تعني الانفصال بل التصفية والتنقية لكي لا يتكرر ،
وصدام ليس منحرفاً بل الإبن الشرعي للتاريخ والسياسة والمجتمع والعقل السياسي الرث.
الجنود الملقَّبون بـ «السوبر اثنا عشر (Super Twelve)» الذين تولوا حراسة صدام
في السجن الأمريكي الذي كانوا خائفين أول الأمر من مهمة حراسة الوحش،
وللمفارقة يقول المؤلف ساخراً إنهم بعدد حواريي المسيح،
وكان محظورا عليهم:
“كتابة مذكِّراتهم أو حتى ذكر طبيعة مهمتهم في تواصلهم مع أحبائهم في الوطن”
كما جاء في كتاب سجين في قصره – ويل باردينورير الذي عاش مع الجنود،
وقضى أياما في توثيق شهاداتهم،
إنتقلوا من الخوف من ” الوحش” الى الوقوع في غرام” العم” كما لقبوه،
لكن ذلك مر عبر سلسلة طويلة من الفخ الذي نصبه صدام لهم كما نصبه لنا ولغيرنا،
كما نصبه للعشيقة اليونانية باريسولا والتظاهر بحبه لاغنية:
” غرباء في الليل” للمغني فرانك سيناترا،
وأية محاولة لفهم عالم صدام حسين بالعقل والمنطق لا تؤدي الى نتيجة،
لأنه ظاهرة لا تخضع للعقل السوي والمنطق السليم،
وتمضي في كل الاتجاهات.
خلال سنوات سجنه الامريكي تمكن صدام من بناء شخصية مختلفة ونقيضة
للشخصية الشائعة عنه لحراسه،
تمازح معهم وقدم لهم السيجار وكانوا يسمعون الاغاني الغربية والامريكية من زنزانته
من خلال راديو صغير،
وحدثهم عن حياته الخاصة وعن احلامه في الزواج من فتاة صغيرة لو خرج
من السجن واهتم بشؤونهم الخاصة بل ارسل رسائل الى زوجاتهم
عند الاجازات ومع الوقت صاروا ينادونه بـــ” العم”،
اختفى الوحش وظهر الوجه البشري الناعم والرقيق،
ورغم أن هؤلاء يرافقونه الى قاعة المحكمة ويسمعون خطابه الحماسي
في قتل العدو الامريكي، أي قتلهم،
لكنهم يستغربون من أن الرجل نهاية المحكمة
يجلس مع من يحرض عليهم بالقتل ويتبادل السيجار والمزاح والطرائف،
حتى ان هؤلاء عاشوا يوماً أسود اللحظة التي سلموا فيها صدام حسين لكي يعدم.
خلال متابعة سلوك صدام مع حراسه لا تكف صورته عن اقتحام خيالي عندما
شارك في محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في 7 تشرين الاول 1959 في شارع الرشيد وسجن لكنه تمكن من بناء علاقة خاصة مع الحراس حتى تمكن من خداعهم
والفرار من السجن من نافذة مرحاض مطعم ومشرب خلال ذهابه للامتحان في الثانوية برفقة الحراس حيث كان سعدون شاكر ينتظره خارج نافذة المطعم بسيارة بعد أن سكّروا الحراس.
منذ تلك اللحظة تغيرت حياة حراسه الأمريكان،
بل نهاية مهمتهم وعودتهم الى الحياة” العادية” وجدوا أنفسهم عالقين في
عالم صدام حسين،
وهو عالم غرائبي لم نقترب منه ونحتاج الى عقل هادئ غير جريح للاقتراب منه،
وهو أمر صعب اليوم.
وكما فعل يهوذا الاسخريوطي في خيانة المسيح وهو احد حوارييه،
فعل أحد حواريي ورفاق صدام وقاد القوات الأمريكية الى وكره،
مع الفارق الكبير بينه وبين المسيح ومن حسن الحظ لم تكن هناك حمامة تبيض ولا نسيج
عنكبوت حول الحفرة لكنا أمام أسطورة مدوية.
ماذا حل بـــ” السوبر 12″ أو حواريي صدام،
بعد أن بنى سيناريو غريب يتناقض مع الصورة النمطية عنه،
ومن الواضح جداً أن صدام قرأ جيداً كيف إستطاعت شخصيات كبيرة في التاريخ
من بناء هندسة ثقافية واخلاقية وفكرية لاصطياد الناس،
حتى أن بعض تلك الشخصيات بنت إمبراطوريات كبرى وهددت العالم.
ماذا حل بحواريي صدام حسين الــ 12 وهم عدد الحراس،
وهو الجزء الخفي الذي لا يقترب المؤرخون والدارسون منه؟
هذه مصائر ونهايات بعضهم ولا يختلف الاخرون عنها:
1: الجندي كريس تاسكر:
عاد الى الاهل ليحدثهم عن صدام حسين الذي لم يكن سيئاً كما يقول،
وإن أحداً لن يفهم الوضع حسب وصفه.
سيترك الجيش وقد لاحظ والداه ان حياته تغيرت بل انقلبت من طفل لطيف الى كحولكي
وسلوكيات مقلقة وشرود ذهني حسب وصف أمه،
2: الجندي بول سفار:
بعد سنوات من حراسة صدام صار هو سجيناً في سجن هيز كاونتي بسبب تزوير شيكات
بلا رصيد لتمويل المخدرات،
وصار صدام ملهمه في تحمل ظروف السجن،
سقط في شرك الكحول والمخدرات وتلقى علاجا من إكتئاب ” ما بعد الصدمة PISD ،
مع أنه لم يشارك في مهمة قتالية فلماذا الصدمة؟
وصف حالته بأنه” إختفى من وجه الأرض وذهب بعيداً جداً”
خرج من السجن ولم يخرج من سجن صدام حسين.
3: روبرت أليس:
كان الأقرب الى صدام وعاد الى بيته لكنه لم يعد الى عالمه وشخصيته،
وظل عالقاً في زنزانة العم،
وحتى في رحلة في سفينة الى جزيرة كايمان في هاواي عندما اخرج السيجار ليدخن
على سطح السفينة في جو مشرق وشم رائحة السيجار نفس النوع الذي يحبه العم،
بزغت في ذهنه صورة صدام حسين.
عاش منزوياً في منزله مع زوجته وشعرت زوجته ريتا بالقلق بعد أن إبتعد عنها،
وكان يحتفظ بقصيدة صدام المهداة الى ريتا بخط يده التي تتحدث عن:
” النجوم والقمر والسماء”
التي لم يكن صدام يراها في سلطته ولا يحفل بها،
بل نحن من جعلنا نرى نجوم الظهيرة،
ورغم محاولاته الخروج من عالمه لكنه مات بمرض قاتل.
4: الجندي : آدم روجرسون.
علم والده أن إبنه تغير تماما من عودته من العراق،
اشارات توتر نفسي وأذهل العائلة عندما قال لهم:
” أشعر أنني مجرم كأنني قتلت شخصاً مقرباً مني”.
السبب لانه سلم صدام للاعدام وهو حاول استعمال السلاح
لحظات الاعدام لكن جندياً مسك به،
لم يفهم كيف أنه شارك في تسليم الشخص للموت
الذي كان مكلفاً بحمايته؟
شعر روجرسون بالذنب كما شعر يهوذا الاسخريوطي الذي جن في النهاية ثم انتحر،
لكن التاريخ هنا في دورة مفرطة في السخرية.
5: الجندي ستيف هتشينسون:
عندما أعدم صدام حسين كان ستيف خارج القاعة لكنه سمع صوت فرقعة الغطاء المعدني
وفتح الكوة تحت صدام عند سحب الحبل،
في تلك للحظة يقول علمت انني ساترك الجيش،
ومازال صوت الارتطام عند سقوط صدام أو العم يطارده،
يستيقظ مرتجفا من النوم في الليل وتقوم زوجته الممرضة بفحص ضغط الدم،
فتجده مرتفعاً.
ساعة ريموند ويل الثمينة التي وضعها صدام قي معصم ستيف قبل أخذه
للمشنقة ذلك الفجر،
صارت هي التوقيت الذي يشير الى أن زمن ستيف توقف على ساعة العم،
وفي هذه النقطة تساوينا مع ستيف:
نحن جميعاً، من يكره ومن يحب وضحايا وجلادين، توقف الزمن عندنا عند تلك الساعة،
بعد أن تركنا صدام حسين سجناء زنزانة عقلية لم نخرج منها،
وتلك الزنزانة تقوم على فكرة:
( السلطة غنيمة حرب،
والشعب أسرى معركة).
لم نعرف من هو صدام حسين كما يجب
ولم نعرف من نحن مع انه خلف باب اللاوعي ويقفز فجأة في التفاصيل المهملة
التي فيها يوجد الشيطان بل الشياطين،
لأننا في غرام الشعارات الكبرى أمس وغداً.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here