ألعلاقة بين آلعِلم و آلفَلسفة

معرفة ألعلاقة بين (آلعِلم) و (آلفَلسفة) لها إنعكاساتها على جميع أصعدة الواقع و الوجود؛ و هي جدليّة لم تُعرف حقيقتها بدقة للآن لأسباب عديدة تمّ عرضها سابقاً، و لكون أحدهما يُؤثّر و يتداخل في و معَ الآخر بطبيعته ؛ لكن الفلسفة الكونيّة حدّدتها بكون تأثير (ألفلسفة) إداريّاً وفنّياً و كونيّاً أكبر وأهمّ و أَثْمر من العِلم نفسه رغم إرتباطه الوثيق بها، إضافة إلى كونها (الفلسفة) ألمُحدّد و آلمُعَبّر عن المزاوجة بين آلإفتراضات الميتافيزيقيّة و النتائج الفيزيائيّة ألعلميّة و بين السايكلوجيّة والبايلوجيّة ويصحّ أن نطلق عليها (منهج العِلم الفرضيّ) فحتى التعميمات آلعلميّة تندرج ضمن هذا آلإطار فلا هي محض علميّة ولا ميتافيزيقية بل متداخلة وجامعة للأمرين خصوصاً عند قياسها كونيّاً لا أرضياً.

إنّ الفيزياء اليوم تأتي على رأس قائمة العلوم الحديثة التي تخضع للفلسفة, خصوصاً حين تدخل مجال (ألكَوانتوم) وفق ما تثمره من نتائج وهي نتائج تؤثّر على الصعيدين الايبستيمولوجي و الانطلوجي، و لكل منهما انعكاساته على البحث القيميّ (الأكسيولوجي), لذلك على الهيئات التي تتبنى الفلسفة الكونيّة في أنظمتها و حركتها على كل صعيد أنْ تكون على دراية و خبرة بالفيزياء إذا ما أرادت ان تصبح عصرية و ذات طابع وجودي لأنّهُ الموضوع الأساس الذي تدور حوله رحى الفلسفة الكونيّة وإنعكاساتها على الأنظمة المختلفة.

إن أزمتنا المعاصرة تتجلّى بانعدام اليقينيّات و فوضى النّظريات واضطراب الآراء و تفاسير آلنصوص، كما تدّل عليه الاتجاهات الفكريّة والدّينية والفلسفيّة وحتى الفيزياء الحديثة وعلى رأسها فلسفات ما بعد الحداثة، يضاف الى أنها تشهد واقعاً تغيب فيه القيم الى حدٍّ بعيد.

لقد تغيّرت بفضل العلم نظرتنا للاشياء و تعدلت آفاقنا المعرفيّة، لكن حال القيم لم يشهد تحوّلات بعد وهي تثبت يوماً بعد اخر أننا “كائنات مراهقة” و “غبيّة” تتذبذب بين سنّ الطفولة والبشريّة و حالة الرّشد، فما ان تسمو شيئاً حتى تنكص وتتهاوى أشياءاً، و هكذا دون بلوغ الرشد أو مرحلة الأنسانيّة و مِن ثمّ ألمرحلة الآدميّة كما دلّت على ذلك تجارب (خلقيّة) من مخلوقات بشرية, و كما دلّت الآية ؛
[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] !؟
و الجواب الإلهي كان سطحيّاً و مبهماً و محفوفاً بآلألغاز و لم ندرك للآن أبعادهُ و فحواه بدقّة ؛ [… قَالَ؛ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ].

هذا هو حال البشر التائه و الضائع بسبب الجهل، فهو الوحيد بين الكائنات الطبيعية يتّصف بالمراهقة الذاتية و البقاء في الحالة البشرية و ممارسة الخداع و الكذب و الأنتصار لنفسه الأمارة بآلسّوء و القبائج والرذائل كصفات طبيعة أثبتتها الكتب السماوية إلّأ ما ندر منهم ليبقى متصفاً بالمرونة العجيبة و التحايل لنصرة النفس، وهي مرونة توحي انه يستعد لتحول إسمى، وقد يبادر بنفسه في خلق هذا التحول كما يُخمّنه الفيزيائيون من انّ المستقبل البعيد ربما يشهد صنع كائن جديد من البشر يكون بلا لحم ولا عظم ولا دم، وفقاً للتلاعب في الخريطة الجينية, لكن هذا خلاف السياق خصوصاً بعد تجريده من العواطف و النفس التي تتفاعل بقوة الرّوح عندما تجعل الجوارح فاعلة!؟

فاذا كانت الكائنات الطبيعيّة تندرج ضمن سنّ الطفولة دون بلوغ حتى المراهقة، و إنّها جميعاً قد تمّ انتخابها وفقاً لعوامل بيئيّة و أخرى ميتافيزيقيّة أو مجهولة، وهو الحال الذي يُصدّق على الانسان على الأقل من وجهة نظر العِلم الحاليّة؛ أيّ إنه نتاج الإنتخاب الطبيعي والديناميّة الذاتية.. فإنّ ما بعد الانسانيّة شيء مختلف، إذ يتمّ انتخابه وفقاً للتخمين السابق بفعل تصميم هذا الكائن المراهق بالذات .

إنّ الافعال الوحشيّة ألتي يُمارسها آلبشر بعضهم للبعض الاخر إلى جانب المظالم الكبرى و الحروب و المؤآمرات و الطبقيّة، والتفنن في القتل وصناعة الموت؛ كلّ ذلك يدعو للاعتقاد بأنّ المسؤول عنها هو هذا الكائن المراهق (ألأنا) التي ترتع في أجواء الحالة البشريّة و آلمناخ الملوّث، فهو البعد الدّفين الذي تعتدي فيه أنفسنا على أنفسنا بشكل مريع وان لم يتحقق ذلك بايدينا بالفعل، أو كُنّا ألضّحية أيضاً! فهو القاتل وهو المقتول، و قد يُعدّ (القاتل) مُجاهداً و المقتول (شهيداً) و كما عبّر آلحلّاج: [أنتم ألمُجاهدون في سبيل الله و أنا الشّهيد] قال حين كان معلّقاً على حبل المشنقة و كان الناس حتى تلامذته يضربونه بآلحجارة و أدموه وكان يبتسم .. حتى رماه تلميذه أبو بكر الشبلي بوردة كانت بيده ؛ فصاح الحسين بن منصور (الحلاج)؛ (آه ثمّ آه), حسب ما أورده الخطيب البغدادي في تأريخ بغداد وحين سألوه كيف لم تئن من ضرب العصي و الحجارة التي أدمت وجهك وجبهتك وجسدك وتألمت لضربك بوردة مسّتك؟ قال الحلاج: لأنّ صاحب الوردة يعرفني وقد علّمته الكثير لكنه رغم ذلك أعلن مقته فآلمني, أما الناس فلا يعرفوني فأعذرهم, و لهذا تأسف كثيراً حتى بكى.

ومن المفارقة – حقاً – أن يسقط رافعوا راية المُقدّس كبعض الحكومات و المدّعين للدّين و الأخلاق و الشرع ؛ أن يسقطوا في أسفل درجات نكوص (الأنا)، فلا حجّة لهم على غيرهم ولا هم من الشهداء على الناس، فعوض ان يكونوا أسمى خلق الله لحملهم راية هذا المُقدس؛ صاروا أسوء الخلق لخيانتهم الأمانة العظمى التي قبلوها؛ [إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً], وهو ما يستدعي مراجعة الفهم الديني والبحث في بنيته التحتية (الجوهر) للوصول الى ابلغ طبقة ينبع منها توليد الفكر، ليس وفقاً لأركيولوجية فوكو، بل استناداً للعلم الجديد: علم الطريقة.

واذا ما كان في العين نقطة عمياء لا تتجاوز حجمها النقطة؛ فإنّ في القلب دائرة سوء مظلمة تتّسع في الجّهل و الشهوة والضلالة بلا حدود.. وهي ما تميّز (الأنا) عن سائر المخلوقات, وهنا نسأل عمّا اذا كان ممكناً أن يكفّ هذا المراهق (الغريب – المألوف) عن المراهقة بالتحول الى سنّ الرشد ثمّ الأنسانية ثمّ الآدميّة ليصبح خليفة الله التي معها قد يتبيّن معنى الجّواب الألهيّ [إني أعلم ما لا تعلمون]؟
إنّ كلّ ذلك يدعونا للنظر والبحث في فلسفة العلم و جوهره و غايته مع أخذ إعتبار المعنى الحرفيّ للفظ الفلسفة، فقد اصبح من غير الممكن طرح أسئلة إيبستيمية و انطلوجيّة و قيميّة دون إعتبار ما يُقدّمه العِلم من نظريات و حقائق، رغم إنّ من الصّعب أن نجد عليها إجابات شافية محدّدة، ربما لكوننا في طور البشريّة المراهقة أو دونها و لم نصل بعد الى ضالّتنا كتلك التي يعدنا بها العرفاء لبلوغ العِلم المشروط بفتح الفطرة الثانية، و كذا الفعل المطلوب بالتحلية بعد التخلية.

لعل المثال التالي يفسّر لنا العلاقة بوضوح بين العِلم و الفلسفة, من خلال الأسئلة الستة ؛ [مَنْ؛ مَا؛ مَتى؛ أَين؛ لِماذا؛ كَيف] ؟ فلو أردت دراسة أيّ موضوع أو معرفة قضية أو أمر صغيراً كان أو كبيراً؛ روح أو مادة أو أية قضية حتى الكون كله لمعرفته, فلو طبّقنا آلأسئلة الستة على الكون للبرهنة على سبب وهدف وحقيقة وجودها أو النتائج الأخرى التي نريد الوصول إليها؛ فما علينا سوى تطبيق الأسئلة التالية لكشف الحقيقة بحسب التالي:
مَنْ الذي خلق الوجود؟
ما المادة التي خلق منها الوجود؟
متى خلق الوجود؟
إين هذا الوجود؟
لماذا خلق الوجود؟
كيف خلق الوجود؟
و يمكن خلاصة و تبسيط الأسئلة الستة و جمعها ضمن أربعة علل لظهور الوجود و الكون, بآلشكل التالي:
و لتبسيط الموضوع أكثر يُمكننا تطبيق الأسئلة أعلاه و تجسيدها من خلال مثال (بناء مدرسة) كتعبير على الوجود كله كآلتالي:
ما ألعـلّة الغائيـــــة لبناء المدرسة؟ ألجواب : لتعليم و تزكية التلاميذ وإعدادهم بواسطة المعلمين و الأدارة؛
وما العلة الصّوريّة في المدرسة؟ شكل المدرسـة ومكوناتهتا ؛
وما العلّة المادية في بنائها؟ المواد الأنشائية التي بنينا بها المدرسة ؛
وما العلة الفاعلية التي فعلت ذلك؟ المهندس و العمال و الفنّيين ؛

وهكذا تُطبق تلك العلل على خلق الكون و ظهوره و مصيره, فمثلاً؛
ألصوريّة: شكل الأرض و المجرات و النجوم والمدارات وتشكيلـها.
ألماديّة: المواد التي تمّ تكوين الأرض و المجــرات ومكوناتـها منها.
الفاعلية: الله تعالى الموجد و المكون و المهندس للوجود و مكوناتها.
الغائية ؛ لتعليم و تزكية الناس بآلمعرفة لتحقيق السعادة في الدارين.
و النتيجة الظاهرة من خلال ما ورد بشأن علاقة العلم مع الفلسفة:
أنّ جميع الأشكال الصوريّة و الماديّة و الفاعليّة و حتى الغائية, هي مسائل تتحدّد من خلال القوانين العلمية المختلفة في جميع المجالات العلمية و الفيزيائية و الكيمياوية ..
أما كيفية إدارة و تنظيم و ترتيب و تنفيذ العلل لتحقيق الهدف بشكل صحيح ؛ فتُحدّدها و تُبرمجها و تُديرها الفلسفة الكونيّة, و لهذا فآلفلسفة الكونية التي تعتمد على المنطق و الحقيقة المطلقة هي الأساس في تحقيق الغاية من الوجود و حياة الأنسان و كل المخلوقات.
ولهذا قلنا بأنّ السياسيين و الأحزاب و آلحكومات بكلّ عناوينها و مسمّياتها لا تُحقق تلك الغاية الأساسية من الوجود مهما إدّعت أو إمتلكت من الوسائل و الأمكانات حتى لو كانت بقوة و عنجهية (صدام) أو (موسوليني) أو (هتلر) أو أيّة قوة عظمى معاصرة لنا وستفشل عاجلاً أو آجلاً و كما شهدنا بعضها بعيوننا وهي تتهاوى لتركن في مزابل التأريخ, والعراق اليوم خير مثال على ذلك؛ بعد أنْ جعلوا التحاصص فلسفتهم في آلنهب و الخطف والفساد وتدمير الشعب بل حتى المنطقة والعراق بآلذات سينقسم قريباً لثلاث مقاطعات: الكورد على الطريقة الغربيّة؛ العرب السُّنة على الطريقة العربية الخليجية؛ ألشيعة على .. لا طريقة .. لأنّهم محكومين بأفكار و قيادات وأهواء حزبيّة تحاصصيّة ضيقة آلآفاق لا همّ لهم سوى التسلط للربح السريع و لنهب الناس وقتل المفكرين والفلاسفة وتشريدهم و كما فعلوا بآلصدر و العظماء و للآن .. والله المستعان لأنهم(الشيعة) الشريحة الأكبر ألمظلومة والوحيدة التي ستخسر وتُذلّ بسبب قياداتهم الفاقدة للفكر والأيمان الكونيّ بآلله و الوجود بل و قتلهم ومرتزقتهم لكلّ مُفكر و فيلسوف.
عزيز حميد مجيد.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here