متى نتحرر من ايديولوجية الغيبيات ؟

متى نتحرر من ايديولوجية الغيبيات ؟ (*) د. رضا العطار

تفسر الأيديولوجية الماورائية الغيبية بوجهها الديني الاحداث والظواهر الاجتماعية والاقتصادية بانها ترتب بأرادة علوية، لا ندرك حكمتها، كما نعجز عن فهم منطقها، وانها تتنطح وتتطاول لتدعي معرفتها لهذه الارادة العلوية، فتقيس الاحداث والثواب والعقاب بمقاييس لا تتفق احيانا مع الشعورية العقلية لصورة الخيرالمطلقة الذي رسخته هذه الايديولوجية عينها او هي تفسرها اذا ما صادف وصح هذا التفسيرباسباب اخلاقية مثالية، فتحكم على الحدث الواحد احكاما تناقض القياسات العقلية لمفاهيم الخير والشر.

فالثروة الطائلة لدى بعض الفاسدين وسلطانهم ارادة علوية، وفقر السواد الاعظم من الشعب ارادة علوية، والمآسي الاجتماعية ارادة علوية، وموت الابرياء عبر الكوارث الطبيعية، كالفيضانات والزلازل والبراكين ارادة علوية، و السيطرة الاجنبية او الحروب الاهلية ارادة علوية، وحكم الظالمين واخضاع الشعوب لسلطتهم، بحكم (واطيعوا اولي الامر منكم) ارادة علوية، لا حصر لأمثاله في التاريخ — كل ذلك لا يعود الى فساد الرسائل الدينية الجاهزة انما لفساد الايديولوجية الناجمة عنها، وهذا الفساد هو النقيض الذي ينبع من طبيعة الأيديولوجية ذاتها.

ففي حالة القول بجهل الحكمة الكامنة وراء الاحداث يناقض عمل العقل بألغائه لمبدأ السببية والارتباط، ويجعل من كل واقعة حدثا قائما بذاته، لمشيئة نجهلها، فيسوغها ويعطل عمل العقل تجاهها ويوقف عمل الجدلية في مسرى العقل والتاريخ، ويجعل من النظم الاجتماعية والاقتصادية وما ينجم عنها من قوانين ونظام حكم وممارسات ونتائج امورا ثابتة ومسلما بها ومنفصلة عن ضرورات التطور، فتختبي بذلك وراء عصمة الارادة العلوية، عصمة مزعومة لهذه الانظمة بتبرئة مسؤوليتها عن الاحداث.

و بذلك يناقض مبادئ عمل العقل في السببية والارتباط، وبالتالي يقف بوجه جدلية الخطأ والصواب. فيحول دون قيام العقل بمحاكمة الواقع لفهم جوهره، ويؤدي بنتيجة ذلك الى التسليم والقبول بظواهره. ولا بد من ملاحظة هذه الحقيقة بان كل فكر شمولي في مرحلة التصور يطرح نفسه كحقيقة تاريخية نهائية. ولا يخرج عن ذلك الفكر الغيبي او نقيضه لا في الفكر الرأسمالي ولا الماركسي.

واذا صح التفسير الاخلاقي المثالي للظاهرة الذي يبني قانونا على الصدفة بقسوة، تفسير الواقع على القصد الاخلاقي المحض لسيرورة حياة الافراد والمجتمعات ما يقصر امكان فهمها على القصد الاخلاقي الغيبي. وهو ما يناقض في غالب الاحيان حركة الواقع، ويلغي دور كل المؤثرات المادية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية الفاعلة في هذا المسار، فيغدو التفسير انتقائيا مثاليا لا واقعيا، فيسقط بذلك كل تفسير علمي ياخذ كل المؤثرات الواقعية بالاعتبار، اي تسقط العقلنة اللازمة لتصحيح انحراف سيرورة التاريخ.

فان ننسب الى القوى الماورائية كل هذه الكوارث والحروب والمظالم وان نخلي مسؤولية الانسان عن هذه الانحرافات خلافا لقاعدة الترابط السببي بين المقدمات والنتائج بدلا من تحميلها للعوامل الواقعية المسببة لها، يؤدي الى اتهام هذه القوة الماورائية بعمل كل هذه المآسي مما يؤدي بالنهاية الى نقض الغاية الاخلاقية التي تهدف اليها الاديان.

هذه الاديان التي انطلقت على اساس تحقيق العدالة الاجتماعية، قد زجّت في خضم تناقض حاد بين صورة الخير المطلق التي رسختها وبين فعل الشر المطلق،

دون ان يتحمل الانسان مسؤولية تغيير هذا الواقع المر، متخطيا ازماته الراهنة بعد ان بلغت وسائلها المادية حد الخطورة على الوجود الانساني كله.

خلاصة القول ان النظرة الغيبية توقع الفكر في التناقض بين الارادة الخيرة المطلقة المتجسدة في الدين وبين الواقع الشرير المتمثل في الممارسات، ما يشل الفكر الانساني ويحول دون تحمل الانسان لمسؤولياته بوضع حلول لهذه الازمة الحضارية المادية الناشئة، تقابلها دورة حضارية متكاملة بنقيضها الروحاني بغية ان يسلكا سوية سيرة تاريخية خيرة في دورة حضارية عقلانية جديدة.

* مقتبس من كتاب ( الانسان والحضارة، جدلية المادة والوعي ) لعبد المجيد عبد الملك.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here