الرَّشيد.. حسمَ جَدلَ الكاغد والضوء

رشيد الخيّون

حضرتُ عقدَ زواجٍ، ودخل «المأذون الشَّرعيَّ» متأبطاً «الآيباد». فقلتُ: لعلَّه مِن الأفندية، أو رجال الدِّين، المهووسين بملازمةِ الآيفون أو الآيباد. لكنَّ الرَّجلَ بدأ يتلو خطبةَ الزَّواج مِن الجهاز الذي بين يديه، ثم قدمه لوكيل العروس، بعد تلقينه ما يجب، ومال إلى العريس ولقنه، ووقعهما بالقلم الإلكتروني.
كان الجديد في عقد الزَّواج هذا تجاوز مفردة «النِّكاح»، وعدم ذِكر مقدار المهر، ووصية المأذون للعريس خيراً بعروسه، وأنْ يبقيا معاً في الأفراح والأتراح. أقول: يبدو أنَّ الضَّوء، والقلم الإلكتروني، وجبا على الشَّيخ تهذيب اللَّفظ، والمعنى واحد!
كان المشهد وراء فكرة المقال، ضمن الجدل القائم بين الضَّوء والكاغد، الجدل الذي بالغت المراكز والمنتديات في إثارته، بين متمسكٍ بالكاغد ومشرئبٍ للضوء. السُّؤال: هل أُثير الجدل عندما أخذت رقائق الجلود أو أوراق البردي، أو كرب النَّخيل تحل محل الحجر في الكتابة؟! أو عندما حلَّ الكاغد محل ما ذَكرنا مِن المواد؟! أرى أنَّ تقنيةَ الضّوء في الكتابة تحتاج إلى قدرة استيعاب عجائبيَّة الاختراع أو الابتكار، خلاف بساطة الكتابة على بقية الأشياء، ومِن العادة يكثر الجدل في عظمة ما ينجزه العقل البشريّ.
وجدنا في التّاريخ ما يؤكد حصول ذلك الجدل، بدلالة توجيه هارون الرَّشيد(ت: 193هج)، باستخدام الكاغد، بعد كثرته ببغداد، لأنه الأفضل في الحفظ مِن التَّلف، حتَّى شاع ببغداد ما عُرف بـ«الوراقين»(التَّوحيديّ، الإمتاع والمؤانسة)، دكاكين نَسخ الكُتب وبيعها.
أمر الرَّشيد: «لا يكتب النَّاس إلا في الكاغد، لأن الجلود ونحوها تقبل المحو والإعادة، فتقبل التَّزوير، بخلاف الكاغد، فإنه متى محي منه فسد، وإن كُشط ظهر كشطه»(القلقشنديّ، صبح الأعشى). روى النَّديم(ت: 380هج) عن استبدال ورق الكاغد بالجلد: «أقام النَّاس ببغداد سنين لا يكتبون إلا في الطُّروس(الصحف الجلديَّة)، لأنَّ الدَّواوين نُهبت في أيام محمد بن زبيدة (الأمين بن الرَّشيد)، وكانت جلوداً، فكانت تمحي ويكتب فيها»(الفهرست). فإذا لامس الماء الكاغد تلفه، لهذا يُضمن عدم تزوير الكتابة عليه، وخصوصاً في الدَّواوين الرَّسميَّة.
كان الأفضل بدواة الكتابة(حاوية الأقلام والأحبار والكاغد)، حسب محمد بن يحيى الصُّولي(ت335هج): «متوسطةً في قدرِها، نصفاً في قدِها(معتدلة)، لا باللَّطيفة فتقصر أقلامها، ولا بالكبيرة فيثقل حملها. لأن الكاتب، ولو كان وزيراً، له مائة غلام مرسومون بحمل دَوَاته، مضطر في بعض الأوقات إلى حملها، ووضعها ورفعها في يد رئيسه، حيث لا يحسن أن يتولى ذلك منها غيره»(الصُّوليّ، أدب الكُتاب)، كيف لا، و«عقول الرِّجال تحت أقلامها»(نفسه). فتخيلوا ضخامة حجم دواة الكتابة! ولكم مقابلتها بحجم الآيباد، وبهول ما يُخزن فيه مِن الكُتب؟
وإذا استعيض عن الأحجار بالجلود والكرب والبرديّ ثم الكاغد، اليوم ظهر الورق الضَّوئي، لا يحتاج إلى دواة أقلام وأحبار. بدأت الدَّوائر تشترط الضَّوء، والجميع يضطر له، فلا يُستلم المقال على الكاغد ولا الكتاب، ولا تُنجز معاملة، وبهذا قضى الضَّوء على مكاتب التَّحرير، و«الصفافين» أو«الطَّباعين»، وكُتاب العرائض، وصار تعلم الكتابة بالإلكترون لا مندوحة منه!
وفق أبي نواس(ت: 196هج)، لم تبدُ النُّقوش الحجرية، والرُّقم الطَّينية، ولا الجلود استخدمت بريداً للهوى بين المحبين. فكيف حال مَن يجعل غرامه وصبابته على حجرةٍ أو كربة نخلة؟! وبما أنّ النَّواسي ثار على بكائيات الأطلال، مال إلى الكاغد، الاختراع الجديد يومها: «إنَّ القراطيس مِن قلبي بمنزلةٍ/تكون كالسَّمع والعينين في الرَّأسِ/لولا القراطيس مات العاشقون معاً/ هذا بغمٍ وهذا كمٌ بوسواس»(الصُّولي، أدب الكاتب).
* كاتب عراقي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here