لنتعرف على شخصية جعفر الصادق الإمام النابغة

عاش الإمام جعفر الصادق (ع) في زمن التحولات الكبرى التي شهدت زوال الحكم الأموي الدموي وقيام حكم عباسي غاشم، نهض على جماجم ضحاياه من العلويين , كان الإمام في طليعة الذين صنعوا تلك الحقبة الحساسة من تاريخ الإسلام، فقد وقف شامخا في قمة فقه أهل البيت عليهم السلام، وأذا عرفنا أن الله لا يغير في قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أدركنا عمق الدور الخطير الذي اضطلع به الإمام الصادق في إيقاف حالة التداعي الفكري التي عصفت بالأمة للاسلامية آنذاك .

go to top of page ففي عهده استكملت مدرسة أهل البيت ملامحها وبدأت في تخريج العلماء والعباقرة الذين تصدوا لمنازلة زعماء العقائد الضارة والضالة. لقد أدرك الإمام الصادق معاناة الخيرين من المسلمين فأنتهج طريقه الثابت مؤكداَ على تماسك الأمة ووحدتها وجعلها قاعدة فكرية صلبة، ثم أنطلق يفجر ينابيع الفكر الرصين ليسيل أودية العلم والمعرفة إلى كل الاتجاهات.

كيف نجا الإمام من براثن حكم قام على أشلاء مذبحة عاشوراء ؟

كيف أمكن الامام أن يروض حكما قاسيا لا يعرف للرحمة معنى؟

ذلك هو السر في شخصية ألإمام الصادق عليه السلام. لقد كانت الأرض تهتز تحت قدميه وآلاف الدسائس والمؤامرات تحاك في الظلام في عصر لا يعرف الثبات، فكان على الإمام أن يكافح ويشق طريقه بعيدا عن ألاعيب الساسة المنحرفين. لقد أحرق الإمام جميع الرسائل التي كانت تدعوه الى الزعامة . كانت الأحداث مثيرة مزلزلة عاصفة. لكن الإمام كان مطمئنا، لأنه كان يعيش في عالم الحقائق، همه الوحيد الحفاظ على كيان الأمة ووحدتها. هكذا عاش الصادق حياته كحياة الأنبياء وقد انطوت روحيته على مبادئ أجداده كمحمد وعلي والحسين عليهم السلام.

وِلد الإمام جعفر الصادق في المدينة المنورة يوم الجمعة عند طلوع الفجر يوم 17 ربيع الأول عام 80 للهجرة وتوفى عام 148 وكان عمره الشريف 68 سنة. أبوه ألإمام محمد الباقر (ع) وأمه أم فروه.

كنيته كانت تشمل أبو إسماعيل وأبو العباس وأبو موسى وله ألقاب كثيرة أشهرها الصادق وكان له عشرة أولاد سبعة ذكور وثلاث بنات.

هكذا تبوأ الصادق (ع) مركز الإمامة الشرعية بعد إبائه الكرام وبرز إلى قمة العلم والمعرفة. فقد كان مرموقا مهابا طأطأت له رؤوس العلماء إجلالا وإكراما لمكانته العلمية السامية، فكانوا يرون فيه بحرا زاخرا للأفكار العالية. لقد عاصر الإمام الحكم الأموي قرابة اربعين عاما وشاهد الظلم والإرهاب يمارس من قبل سلطة بني أمية ضد الأمة الإسلامية، فكان من الطبيعي أن يرى الإمام نفسه بعد ثورة السبط سيد الشهداء في كربلاء في طليعة قيادة الأمة الإسلامية.

كان من مميزات عصره، انتشار العلوم الإسلامية إلى جانب علم الحديث وعلم الكلام والجدل واللغة والشعر والأدب والتاريخ وعلم الفلك. لقد كان أشهر أهل زمانه علما وفضلا. فقد قال مالك بن آنس، أمام المذهب المالكي، ما رأت عيني ولا سمعت أذني ولا خطر ببال بشر، بأن هناك رجل أفضل من جعفر الصادق علما وعبادة وزهدا، انه كان كثير الفوائد.

في الحقيقة أن شخصية الصادق لا زالت تثير اهتمامات الباحثين إلى من يكشف سرها من المؤرخين، لا، لأهميتها في التاريخ الإسلامي فحسب بل لأن علوم ذلك العصر تتطلب إلى من يجلو عن كنهها لوجودها في مفترق الطرق ومعاصرتها لعبقريات متباينة كل منها لها مدرستها الخاصة بها فكثير من الحقائق ظلت طي الخفاء لأن التعصب الذميم الذي فرضه حكام بني أمية الجهلة في الشام، هو الذي طمس معالمها ومنع أهل العلم دون البحث والتنقيب

لكن مدرسة الإمام الصادق(ع) في يثرب بالحجاز قد أخذت باب المبادرة متحدية سلطة بني أمية في الشام، لنشر تعاليم آل البيت عليهم السلام. كانت هذه المدرسة تعد من الأحداث الخطيرة في ذلك الزمان، فقد كانت تبني عقولا وتنشئ أجيالا وتؤسس صروحا من الثقافة ودنيا من التوجيه، فتضع دستورا شاملا لإصلاح الحياة وتطويرها وتقدمها في جميع الميادين، كان السبب الرئيسي في إنشاء مدرسة الإمام الصادق يعود إلى رؤية الإمام نفسه للأوضاع السياسية المضطربة آنذاك – – فعندما اطل على العالم الإسلامي رآه يموج بالفتن والنزاعات التي لم يلمس فيها أي اثر محمود، فقد تحلل المجتمع وتفكك، خاصة بعد أن أشعلت نار الحرب معظم حواضره أثناء انهيار الإمبراطورية الأموية في دمشق. إمبراطورية الظلم والجريمة التي بلغت ذروتها زمن الفاسق يزيد بن معاوية. كانت الأمور أسوأ مما يمكن تصورها، فقد شاعت ضروب الفساد والتحلل الخلقي في أرجاء البلاد. وعندما سقط سلطان بني أمية عام 132 للهجرة، ثم آلت الخلافة إلى بني العباس، كان الإمام الصادق يعاصر حكم المنصور ما يقرب من عشر سنوات. وكان خلالها منصرفا عن الصراع السياسي المكشوف إلى بناء الأمة الإسلامية علميا وفكريا وعقائديا وأخلاقيا، بناء يضمن سلامة الخط الإسلامي على المدى البعيد بالرغم من استمرار الانحرافات السياسية الفكرية في أوساط المجتمع الإسلامي.

لقد اهتم الصادق ببناء الجماعة الصالحة التي تتحمل مسؤولية تجذير آل البيت في الأمة الإسلامية عن طريق بناء جامعة آل البيت وتخريج العلماء في مختلف فنون المعرفة ولا سيما علماء الشريعة الذين يضمنون للأمة الإسلامية مسيرتها في المستقبل القريب والبعيد، يزرعون بذور الثورة ضد الطغيان.

. فقد قال ابن حجر في كتاب الصواعق : لقد نقل الناس عن الإمام جعفر الصادق من العلوم ما شاءت به الركبان وانتشروا إلى مختلف بقاع الدنيا.

وهذا الإمام أبو حنيفة بن ثابت يقول : لولا السنتان لهلك النعمان، ويقصد بالسنتين، الفترة التي قضاها بالتلمذة على يد الإمام فهو يعلق باعتزاز وفخر ويعتبرها أفضل ادوار حياته العلمية التي سبقت شهرته.

كانت طريقة الإمام جعفر الصادق في تدريس طلابه تعتمد على مبدأ الحوار والمحادثة والتدرج بهم من الموضوعات الساذجة إلى المسائل المركبة والمعقدة، وكان أهم جانب من جوانب المعرفة التي عنى بها الإمام هو تفسير القران الكريم والفقه والشريعة، وهو جانب كثر الحديث عنه حتى أصبح أجلى جوانب الإمام (ع) وحسبنا في الحديث ما يقدره الشيخ الأزهري المعروف (محمد أبو زهرة) في كتابه الإمام الصادق إذ يقول:

ما جمع علماء الأعلام على اختلاف طوائفهم في أمر ما، كما اجمعوا على فضل الإمام الصادق وعلمه، فأئمة السنة الذين عاصروه تلقوا عنه واخذوا منه مثل سفيان الثوري وطبقة مالك وأبو حنيفة فقد اعتبروه اعلم الناس على اختلاف طبقاتهم، كما تلقى طائفة كبيرة من النابغين مثل يحي بن سعيد الأنصاري وأيوب السيختياني وعمرو بن العلاء وغيرهم في علوم الفقه والحديث وما روي من الأعلام المجتهدين.

أما في جانب الفلسفة التي أولاها الإمام الصادق اهتمامه، هو العقل العربي بعد ما اصابه من شكوك فلسفية نتيجة حركة الترجمة والاختلاط بالأمم الجديدة الداخلة في الإسلام. وهنا نجد الإمام يقوم في تفنيد الأباطيل وإزالة الشبه وكشف القناع عن الحقائق وتوجيه طلابه نحو التفرغ والعناية بهذا الجانب الفكري المهم. كما وأن هناك جانب آخر من جوانب المعرفة أولاه الصادق كثيرا من رعايته الا وهو علم الكيمياء.

حيث تمكن عالم الكيمياء المعروف جابر بن حيان من الاتصال بالإمام الصادق الذي أغدق عليه علوم الكيمياء في مدرسته. وأصبح بفضل تلمذته الواعية كيمياوي العرب الأول – ثم أصبح على مر القرون قمة شامخة في تطور هذا العلم حتى قالوا أن اسم جابر بن حيان ينزل في تاريخ الكيمياء منزلة أرسطو في تاريخ المنطق . ولم يكن لجابر أستاذ غير الإمام الصادق وقد كرر جابر اسم الإمام في أكثر كتبه، وقد وجد في أستاذه الفذ سندا ومرشدا لا يستغنى عنه، وقد سعى جابر لتحرير الكيمياء من أساطير الأولين فنجح في هذا السبيل إلى حد بعيد.

كما التحق بمدرسة الإمام جمع غفير من طلاب العلم بمختلف نزعاتهم وميولهم وأصبح المتخرجون فيما بعد، أئمة جوامع في شتى الأقطار الإسلامية عربا وغير عرب، فانظم إليها أبناء قبائل من الكوفة والبصرة وواسط والحجاز، وقد الف جمع كبير من طلابه كتبا في مختلف صنوف العلم والأدب والمعرفة حتى بلغ عدد الكتب 400 كتاب لأربعمائة مؤلف، وكانت هذه المدرسة مستقلة في عملها ولم تخضع لإرادة الدولة، فلم يكن لولاة الأمور شأن فيها والتدخل في شؤونها ومنذ ذلك التاريخ يتمتع العالم والفقيه الشيعي بالاستقلال المادي عن الدولة بحيث يستطيع أن يتمتع بشعور الاستغناء عن الحاكم لا بل الاستعلاء عليه كما هي الحال في الحوزة العلمية في النجف الشرف هذا اليوم.

يقول الحسن بن علي الوشاء: أدركت مسجد الكوفة وفيه 900 شيخ كل يقول حدثني الإمام الصادق عليه السلام كذا وكذا – –

كما يقول الباحث الهندي السيد أمير علي: بعدما انتشر العلم في ذلك الحين، أصبح في الإمكان فك الفكر من عقاله وأصبحت المناقشات الفلسفية علنية وفي متناول اليد وكان يتزعم هذه الحركة الفكرية حفيد الإمام علي بن أبي طالب الإمام جعفر الصادق الذي يمتاز بسعة العقل وغزارة الفهم، فهو ملم كل الإلمام بعلوم عصره ويعتبر المؤسس الأول للمدارس الفلسفية الحديثة

كما يعلق العالم المصري أبو زهرة فيقول : تنمو المذاهب لو كان باب الاجتهاد مفتوحا لغرض حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والنفسية ومعالجتها بما يناسبها من غير تجاوز لحدود النص، وإننا نعتقد أن المذهب الجعفري هو الذي فتح باب الاجتهاد وكان مصيبا،

لقد برز نهج الإمام الصادق في مجالين أولهما قيادة الحركة الفكرية وثانيهما اعتزاله النشاط السياسي العلني طبقا لمستلزمات الظروف المعاصرة.

وعندما سقطت دولة بني امية عام 132هجرية وانتقلت العاصمة الاسلامية من دمشق في الشام الى بغداد في العراق، حيث اتخذها العباسيون العاصمة في دولتهم الجديدة، رآى الإمام الصادق أن الوقت غدا مناسبا لنقل مدرسته من المدينة المنورة إلى جامع أبيه في الكوفة، وهناك شرع يوزع طلابه حسب ميولهم وقابلياتهم فصرف قوما إلى الفلسفة وآخر إلى المناظرة وغيرهم إلى الفقه وآخر إلى الكيمياء وعلم الطب وترك للبقية الباقية حرية الاختيار وفقا لما يهوون.

لقد ارتأى الإمام الصادق أن السلاح في ذلك العصر لا يحل مشكلة ولا يرفع ظلامه عن مظلوم. كان رأيه أن يثقف الفرد نفسه، ليصبح قادرا على المطالبة بحقوقه. وقد رفض العروض الداعية لأن يقحم نفسه في الكفاح المسلح ضد الأعداء لرؤيته في عدم جدوى ذلك وتجنب زج المؤمنين في معركة خاسرة.

go to top of page كان الامام يخاطب أنصاره قوله:

(كونوا لنا دعاة خير بدون السنتكم، أوصيكم بتقوى الله واجتناب معاصيه وأداء الأمانة وحسن الصحبة) – – فسأل القوم كيف ندعو ونحن صامتون ؟

فرد عليهم الامام : عندما تقومون بتنفيذ هذه الوصايا بالعمل، لا بالكلام، آنذاك سيدرك الجمهور حسن نواياكم ويكسب ثقتكم وبالتالي يسارع إليكم وهو راض:

بدأ في عصر الإمام تطغى روح الانهزامية بدعوى الإيغال في التصوف والاستغراق فيه لحد تخرجهم من حقيقتهم الخيرة لذلك حثهم الإمام على الجدية في الحياة والعمل من اجل العيش الكريم فكان يقول أن الله يحب الجمال والتجميل ويبغض البؤس والشقاء ولما انعم الله بنعمته على عبده أحب إليه أن يرى أثرها عليه فلما سئل كيف ذلك قال: ينظف ثوبه ويطيب رائحته ويكنس أقبيته ويجصص داره.

كان الإمام يهوى الافئدة بسبب صفاته الحميدة التي كانت امتدادا لأخلاق جده رسول الله (ص) ومن الصفات البارزة في شخصه هو الصبر وعدم الجزع أمام ما يلاقيه من عظيم البلاء والخطوب – – أما في مجال طلب العيش فكان الإمام يمارس فلاحة الأرض في مزرعته، يمسك المسحاة ويحرث الحقل ويفتح الماء ويجمع الثمر ويجهد نفسه بمختلف ضروب العمل الشاق حتى لا يكون بحاجة إلى من في يد الناس فكان يقول: أن إيذاء الجسم بحر الشمس أحب إليه في طلب الرزق، انه كان رمزا للقدوة الحسنة في الكسب الحلال لمن يريد الاقتداء بسيرته والسير على تعاليمه.

كان الإمام يتمتع باحترام مفرط من مجتمعه الذي كان يقابله بالإجلال والتكريم فكانوا يدركون سمو مقامه وحتى الملحدين منهم، فهذا ابن المقفع مثلا يقول لرفيقه ابن العوجاء عندما كانا معا في المسجد الحرام، ( لا احد من هؤلاء القوم في المسجد يستحق صفة الإنسانية إلا هذا الشيخ الجالس هناك ) مشيرا إلى الإمام الصادق عليه السلام.

go to top of page من أهم الانجازات التي قام بها الإمام هو وضعه أسس التأليف في الإسلام الذي لم يكن معروفا من قبل وكان الإمام ينصح أصحابه بقوله أكتبوا ! – فإنكم لا تحفظوا حتى تكتبوا، وقوله للفضل ابن عمر اكتب وبث علمك في أقرانك، فأن مت ورثتك ذريتك كتبك ! .

من مؤلفات الإمام الصادق (ع)

1- رسالة إلى النجاشي والي الأهواز

2 – رسالة في الخصال الحميدة

3 – في خلق الإنسان

4 – توحيد الفضل (طبع على الحجر) في مصر وقرأ في مجلة المقتبس

5 – مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة

6 – وصيته لابن النعمان الأحول

7 – في أصحاب الرأي والقياس

8 – وصيته لعبد الله بن جندب

9 – في الغنائم ووجوب الخمس

10 – نثر الدرر

11 – في وصف المجد لأهل البيت

12 – في وجوه معايش العباد

13 – احتجابه على الصوفية

14 – حِكم لشخص الإمام جعفر الصادق (ع)

أما في مجال سعة الاطلاع والعلم يذكر ابن شهر أشوب في مناقب الإمام قوله

( لم ينقل العلماء عن احد مثلما نقلوا عن الامام جعفر الصادق )

وعندما جمع الرواة أسماء أصحاب الحديث كان عددهم يناهز أربعة ألاف، اتفقوا جميعهم على أن التراث العلمي الغزير الذي خلفه الإمام الصادق للأجيال القادمة تراث زاخر بالغنى والعمق والابتكار ما يهز العقول وقد أجلى الإمام (ع) عن خفايا وغوامض عدد من العلوم فاثرى بها الفكر الإنساني ثراء كبيرا وانفتحت بهم أمام العقل آفاق لم يكن الإنسان يدركها من قبل.

عندما توفى الإمام الصادق رثاه حتى أعداءه، فهذا الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور يقول: (بلغني أن سيدهم وعالمهم الإمام جعفر الصادق الذي كان من الأخيار، قد وافاه الأجل) .

في الختام أود أن أعطر حديثي بهذا البيت من الشعر، كان الامام الصادق يردده دوما : ( لا تجزعن عن المداد فأنه * عطر الرجال وحلية الآداب )

الدكتور رضا العطار

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here