مديح اللصوص القدامى

حمزة الحسن

يوم كنا أطفالاً نسمع في حكايات المواقد
الليلية التي كونت ذاكرتنا من خلال التاريخ الشفوي
أن اللصوص كانوا يخجلون من سرقة الأرملة واليتيم والضيف والغريب،
والغريب هو القادم من بلدة أخرى،
العراقي يتطير من الغربة وعنده أقرب الى الشر:
” عساك بالغربة”
دعاء أقرب للمسبة.

كانت السرقة من هؤلاء معارة ومسبة لا فخر فيها ولا شهامة،
وحتى لو حدثت فلا لص يتباهى بها ،
لأنها خارج” أخلاق اللصوص”.
كانت لهم منظومات قيم رادعة لانهم في الاصل فقراء ويعرفون
معنى العوز وألم الخسارة،
وكانت عندهم مرجعية أخلاقية رادعة وحكايات من غزوات سابقة.

كما أن اللص القديم لا يسرق من بيت شرب فيه ماءً أو تقاسم طعاماً مع الأسرة،
لأن شراكة الزاد والملح عرف وقانون ودستور ملزم وقسم مقدس،
لا يخون ولا يغدر لأنها ليست من الشجاعة ولا الشهامة،
ولا يعبر حائطاً فوقه بيرق لإمام،
يقطع صحراءً مشتعلة ولا يعبر هذا الحائط،
وليس كدستور اليوم وقانون اليوم الذي يشرعن للسرقة من خلال التلاعب به كغطاء للسرقة.
كما أن لصوص أيام زمان لم يكونوا أصحاب فلسفة ونظريات وعقائد ولا مشاريع اصلاح،
وهم يعترفون أنهم لصوص بسبب جور الزمان،
ومقارنة مع لصوص اليوم يلوح لصوص الزمن القديم،
صنفاً من الملائكة أو في الأقل كانوا بشراً طبيعيين وكل سرقاتهم
لا تتجاوز نعجة أو بقرة أو كيس طحين وبعض المال لو توفر من ميسور الحال.

لكن الطفرة التي حدثت بعد عام 2003 والتحولات في عالم اللصوص،
من الصعب فهمها على خلفية تاريخ التشليح والسرقة،
فمن أين جاء هؤلاء؟
من أي ثقافة وتقاليد وأرث؟

الاغرب من ذلك ان لصوص اليوم دعاة دولة وقانون ودستور والحفاظ
على السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية بل أصحاب بر وتقوى
واصحاب عقائد دينية واخلاقية وسياسية وقادة وزعماء ورموز
مع انهم سرقوا الاخضر واليابس وأذلوا الشرفاء وتركوا أعراض الناس تتفسخ
وأسسوا البنية التحتية لكل العاهات والشرور.
ما الذي حدث؟
كيف حدث هذا ” التطور” المنحرف في عالم اللصوص؟

لم يحدث أي تطور في السنوات الماضية لا في العلوم ولا في الصناعة ولا في الثقافة
ولا في التجارة ولا في الشعر ولا في اللغة.
سوى تطور في قواعد النهب والسلب.

في قاموس اللصوص القدماء هذه المفردات القليلة:
كعيدي أي من ينتظر اللص ويحميه، وحوّاف أي اللص، سطاى: من يقوم بالسطو،
لكن قاموس لصوص اليوم فريد من نوعه:
زعيم، قائد، مصلح، رمز، للصوص الكبار،
أما اللصوص الصغار فلهم قاموسهم: دبل فاليوم، مكبسل، محشش، لغاف، كارص، طاوة وسطاي المفردة الوحيدة من القاموس القديم التي عبرت للقاموس الجديد… الخ،
وحسب قراءة ألسنية وتفكيك لمفردات قاموس اللصوصية الجديد ارتفاع نبرة القسوة والحدة والخطر مما لا نجده في القاموس القديم.

نحن لسنا اغبياء لكي نطالب لصوص المال العام اليوم بتغيير اخلاقهم أو اصلاح ما أفسدوه،
لأن هؤلاء بتعبير جورج أورويل” كالقرود ان تخاصموا أفسدوا الزرع، وان تصالحوا أكلوه”،
ذلك هو المستحيل مع أن هناك من الحمقى من يطالب بذلك،
كما لو تطلب من فيل تنظيم حركة المرور،
ومن ذئب حراسة قطيع الغنم ومن ثور هائج في محل للزجاج سماع موسيقى حالمة،
لكن نطالبهم” أقلاً، أقلاً”،
بالعودة الى تقاليد وأخلاق وشهامة اللصوص القدماء.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here