محمد السعدي
قراءة في محطات حياته …
هذا عنوان الكتاب الذي أهدانياه الدكتور خليل عبد العزيز المثقف والسياسي والمناضل ، والذي ولج طريق السياسة منذ نعومة أظافره ، حيث واكب الحياة السياسية العراقية في مدينته ” الموصل ” . منذ بدايات أرهاصاتها السياسية الاولى في الصراع التاريخي بين القوميين والشيوعيين والتي تفجرت بحركة الشواف عام ١٩٥٩ . عندما كان خليل عبد العزيز شاباً في بداية منعطفه السياسي متصدراً مشاريع اليسار والحزب الشيوعي العراقي ليحمل لوائه في الدفاع عن أهدافه ومنجزات ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨. كانت تلك البداية في الانطلاق لتستمر مسيرة طويلة وحافلة من النضال والصعاب والغربة والموقف والتحدي بين شتى بلدان عديدة تقاذفته مناحي الحياة لتجمعه برؤساء دول وقادة أحزاب وسياسيين . بلغ من العمر عتياً ، لكنه غزير الابداع والانتاج والذاكرة ومازال يضحي بوقته الثمين في العاصمة السويدية ” ستوكهولم ” يرفد الثقافة الوطنية بنشاط يومي وفعال في الدفاع عن وجه العراق الناصع وتاريخ الشيوعيين الوطني .
عن دار ” سطور ” للنشر والتوزيع في العاصمة بغداد صدر كتابه في طبعته الأولى عام ٢٠١٨. عن ٣٢٤ صفحة من حجم الورق الكبير ، والذي ضم بين جنباته تاريخ حافل بالاحداث منذ مطلع الخمسينيات الى يومنا هذا ، محطات تستحق الذكر والقراءة والدراسة لاستخلاص المواقف والتحديات لمواجهة أزمات الواقع الحالي .
جاء في مقدمة كتابه ” محطات من حياتي ” بخط قلم صديقه ورفيقه كاظم حبيب ” سيرة ذاتية ديناميكية بين الموصل ، بغداد ، موسكو ، عدن ، ستوكهولم . لكل واحدة من تلك المدن ، كان للدكتور خليل محطات نضالية ومواقف أنسانية تركت أثرها الواضح في معطيات تلك المدن وسيرة أحداثها من خلال دوره وموقعه في قلب الحدث حاملاً فكره وأيمانه بنصرة الانسان ودوره في بناء صرحاً أنسانياً يليق بآدمية الانسان على الارض .
الكتاب ” محطات من حياتي ” . كل فصل فيه يحتاج الى كتاب مستقل بما يحمل من أحداث أرتبطت وأنطلقت من أرض العراق ليجوب العالم بها ومؤمناً بحتمية التاريخ في صراع الارادات والمواقف والافكار .
قرأت الكتاب بتمعن وحرص شديدين حرصاً مني على سبر أغوار التاريخ المنسي أحداث ومواقف تلقفناه كأي تلاميذ أبتدائية في مقتبل مشوارنا السياسي ولضعف قدراتنا الفكرية في التحليل والقراءة لنبني رؤى عليها بشدة بساطتها لم يرحمنا الزمن بعمق معانيها . إرادة الدكتور خليل عبد العزيز في فك مفاصلها العقدية من خلال كتابه الذي جاء تتويجاً لمسيرة نضالية قاسية كان أحد مناضليها المهميين في تجسيد تلك المعاني النضالية وروايتها بلغة صادقة وجريئة في تعاقب أحداثها ، وهذا ما يميز منجزه الفكري والسياسي في صفحات كتابه محطات من حياتي .
وقفت متأملاً بعد أن أنهيت صفحات كتابه الثمين من أي باب سوف أدخل عتبة بابه ؟. وأي موضوعه سوف أختارها في شهادته التاريخية عن حقبات مهمة في تاريخنا العراقي ؟. والتي شدتني حقاً في تتبع تفاصيلها برؤية وطنية بعيداً عن أجندات لقد أخرتنا زمناً طويلا ًفي بداية مشوارنا النضالي وحددت أطر التحليل والتجديد والفهم الواقعي برؤية نقدية من منظور ماركسي لينيني حول حركة المجتمع ومستقبله .
تعرض خليل عبد العزيز الى الملاحقة والاعتقال والحكم عليه بعد أحداث الشواف في مدينة الموصل ، دارت به الدنيا وتقاذفته السجون من سجن بعقوبة المركزي وأنتهت بأبعاده الى مدينة ” بدرة ” الحدودية التابعة للواء الكوت ، كان في طليعة المقاومين لحركة الشواف في الموصل بإعتباره أبن المدينة وعضو في الحزب الشيوعي العراقي ومن المتمسكين بأهداف ثورة تموز ومنجزاتها ، ومن المساهمين في تأسيس أتحاد الطلبة العراقي العام 1952 في مدينة الموصل .
قضى ردحاً من الزمن الطويل في الاتحاد السوفيتي ، وبات من الوجوه البارزة والمألوفة في معهد الاستشراق ومن خلال فضاءات تلك المعهد تعرف وأطلع على شخصيات وأحداث مهمة في العلاقات الدولية ومن خلال تلك العلاقات تسنى له أن يحدد ويتخذ مواقف بما يمليه عليه إنتمائه الوطني ، وهذا الكم الهائل من الرؤى والمواقف والتجارب في كتابه تجرك الى أحداث مشوقة ومهمة في رسم سياسات العالم .
فصول الكتاب المتعاقبة زمنياً في الحدث والمكان والتاريخ دعنا إنها مشوقة ولكنها لا تخلوا من المتعة ولهفة المتابعة وسرد للتاريخ ، بتنا اليوم وبما يمر به بلدنا العراق والمنطقة من ويلات وأرباك في الشأن الوطني والانتماء القومي ففصول الكتاب وأحداثه التوثيقية تقربك من عمق وخفايا تلك الاحداث .
توقفت عند كل فصل من تلك الفصول ، وبتقديري كانت مهمة جداً لانها تدخل ضمن العلاقات الدولية ومصالحها الخاصة وغلبتها على القييم والمباديء والانتماءات المشتركة .
واحد من تلك المداخل ، والذي يبدأ بوصول البعثي ورجل المخابرات ” فاضل البراك ” الى معقل الشيوعية وهو من المعادين لها فكراً وممارسة ، وأصبح نائب الملحق العسكري في السفارة العراقية ومسؤول محطة المخابرات العراقية في موسكو ، قدم أطروحته حول حركة رشيد عالي الكيلاني عام ١٩٤١ والتي تدخل ضمن الدراسات القومية وفي الوقت الذي يعتمد ضمن نهج وسياسة المعهد هو الاهتمام وأعطاء الاولوية للدراسات الماركسية اللينينية ، والشيوعيين أولى بمقاعدها .
يتضمن كتاب ” محطات من حياتي ” للدكتور خليل عبد العزيز مداخيل عدة ومهمة وغير مطروقة سابقاً في أسرار وبروتوكولات في العلاقات الدولية ونمط تحديدها من أحمد حسن البكر الى ملك حسين الى محمد سياد بري الى حافط الاسد الى عبد الفتاح إسماعيل ، وأنتهاءاً بجمال عبد الناصر ، ووجهة السياسة السوفيتية في التعامل مع وجهات نظر ونمط حكم ورؤية هؤلاء الرؤساء مع حركات شعوبهم وعلاقاتهم بقوى المعارضة الشيوعية في بلدانهم . عكس الدكتور خليل في متون كتابه تلك الوقائع بإعتباره شاهد وباحث وسياسي وأعلامي .
خصص الدكتور خليل في كتابه فصل كامل ومهم للقاريء العربي من وجهة نظر سياسية ” يسارية ” .
السياسة السوفيتية وعلاقتها بالاحزاب الشيوعية العربية ، والتي مازالت الى يومنا هذا تتصدر المشهد السياسي العربي ” الشيوعي ” في تداعياته المتشظية في اللوم والنقد وعدم الرضا تجاه مصير أحزاب وشعوب وحركات وأحداث .
البلاشفة في ثورتهم التاريخية ٦ أكتوبر ١٩١٧ بقيادة زعيمهم فلاديمير إيليتش لينين ، أستلهم الدروس الأولى في تطبيقاتها على أرض الواقع بدكتاتورية البروليتاريا وسلطة العمال في البناء الاشتراكي من تعاليم كارل ماركس ورفيقه فردريك أنجلس ، لكن بعد موت لينين العام 1924 ترك فراغاً كبيراً في قيادة دفة الحزب وفي عملية بناء النظام الاشتراكي بصعود قيادات متهورة بأمكانيات محدودة ومحصورة في النظرية والتطبيق والممارسة . ستالين وصحبه وخطابهم الايديولوجي الجديد الذي يتقاطع تماماً مع خطوات الزعيم الشيوعي لينين ، والذين تمسكوا بخطواته في بدايات مسيرة الثورة وعملية البناء تمت أزاحتهم من قيادات الحزب الشيوعي السوفيتي ، بوخارين ، زينوفيف ، كامينيف ، تروتسكي ، وتعرضوا الى سلسلة إنتهاكات أدت بهم الى الموت ، سلسلة عمليات تطهير كاملة شملت أهم قيادات الحزب الشيوعي ، ولم تنتهي الا بسقوط النظام الشيوعي والذي أعتبر زلزالاً هز العالم ، مثلما أعتبر الامريكي اليساري ( جون ريد ) في كتابه حول يوميات ثورة أكتوبر ” عشرة أيام هزت العالم ” قبل سبعة عقود مضت .
وقال عنه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر : من الخارج قلاع محصنة ومن الداخل خاوية . والعالم كله شاهد الإنهيار المروع لأنظمة البلدان الاشتراكية .
تضمن الكتاب حوارات صحفية أجراها الصحفي فرات المحسن مع مؤلف الكتاب الدكتور خليل عبد العزيز ومن أهمها حول علاقة السوفييت بالاحزاب الشيوعية العربية ، حيث إنها يصفها علاقات بين تابع ومتبوع من خلال موظف حكومي وحزبي صغير يشغل مكاناً متواضعاً في جهاز المخابرات يدعى ” نيجكين ” يقبل الهدايا ويطالب بالرشاوي من قادة تلك الاحزاب لتمشية معاملة لقاء مسؤول أو مكاناً في منتجع على شواطيء البحر الأسود . يذكر عبد العزيز في كتابه عندما وصل الى موسكو إلتقاه الشهيد سلام عادل ونبه بعدم قبوله الذهاب الى تلك المنتجعات لو عرض عليه من خلال يومياته التي قضاه في تلك المنتجعات والأساليب المتبعة والمعمول بها والهدف من ورائها ، تعامل القادة الشيوعيين السوفييت مع ملفات الاحزاب الشيوعية العربية بالضد من إرادة جماهير هذه الاحزاب بالتنسيق مع قادتها في إجهاض أي مشروع ثوري يؤدي الى ثورة وطنية من خلال أستلام السلطة في بلدانهم أي كان هناك إذعان وخضوع كامل لوصايا اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي السوفيتي من خلال ممثل لجنة العلاقات الخارجية الرفيق ” بوناماريوف ” والذي كان يصغى بشكل طوعي الى معلومات ” يفغيني بريماكوف ” الذي بدوره يقدم معلومات سيئة وصورة غير واضحة عن سياسات ومواقف الاحزاب الشيوعية العربية ومحاولات لوي ذراع لسياسة الاحزاب الشيوعية العربية التي لا تتماشى مع وصايا القادة السوفييت وخير مثال الحزب الشيوعي السوداني أيام عبد الخالق محجوب الذي كان يعارض علناً السياسة السوفيتية مما مورست عليه ضغوطات كبيرة وحصار سياسي وفكري لتحيده عن مواقفه ، بل تعدى الأمر الى أبعد من ذلك بمنعه من حضور أجتماعات الاحزاب الشيوعية العربية لمواقفه الصريحة والعلنية في إنتقاد السياسة السوفيتية تجاه شعوب المنطقة وأحزابها الوطنية ، في الوقت الي كان مدير معهد الاستشراق ” غفوروف ” له رأي آخر تجاه السياسة السوفيتية أكثر واقعية وتطلعاً مشرقاً لنضالات تلك الاحزاب نحو الحرية والاشتراكية كما أكد الدكتور خليل عبد العزيز في كتابه ” محطات من حياتي ” .
مارس الشيوعيين السوفييت ضغوطات كبيرة على قيادة الحزب الشيوعي المصري للانضمام الى مشروع الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة جمال عبد الناصر الذي أسسه بتوجيهات من السوفييت بعد مشروع السد العالي ، بل ذهب السوفييت الى أكثر من ذلك بمطالبتهم للحزب الشيوعي المصري بحل تنظيماته وألغاء كيانه السياسي والتخلي عن مشروع الثورة والسلطة ، ولم يستطيع ذلك الحزب العريق في مقاومة الضغوطات السوفيتية بسبب ضعف أمكانياته على المستوى العام ، فاندحر مستسلماً صاغياً ، أزاء أدعاء عبد الناصر السياسي نحو بناء نظام أشتراكي عربي وبدعم سوفيتي واضح ، وفي الوقت الذي كانت السجون المصرية تغص بالشيوعيين المصريين والتقدميين .
موضوعة التطور اللارأسمالي والانتقال الى السلطة سلمياً وتسويقها أيدلوجيا منذ نهاية الخمسينيات لأطفاء شعلة الثورة بين صفوف الشيوعيين في العالم ، أعتمدها السوفييت في علاقاتهم الخارجية تجاه الدول النامية على حساب مصلحة ومصير القوى اليسارية والديمقراطية في ذلك البلاد . وكان نيكيتا خروشوف الرئيس السوفيتي هو من دافع عنها بعد طرحها كمشروع المنظر سوسولوف .
العراق والحزب الشيوعي العراقي من أكبر ضحايا السياسة السوفيتية في تضييع فرصته التاريخية في أخذ السلطة من مجموعة من العسكر المتهورين الزعيم عبد الكريم قاسم ورهطه . وفي فترة حكم الزعيم قاسم طالب عزيز محمد بحل التنظيم الحزبي داخل الجيش العراقي وأثنى عليه عامر عبدالله لعدم أزعاج الزعيم وتبديد خوفه من تطلع الشيوعيين الى السلطة وتماشياً مع الموقف السوفيتي تجاه العراق .
وعلى غرار ما حدث في مصر . أراد السوفييت أن يعيدوا التجربة السيئة في العراق ، فبعد إنقلاب عبد السلام عارف على سلطة البعثيين في ١٨ تشرين الثاني العام ١٩٦٣ والاعلان عن الاتحاد الاشتراكي العربي ، ضغط السوفييت على قادة الحزب الشيوعي العراقي بأتجاه حل تنظيمات الحزب والانصهار في بوتقة الاتحاد الاشتراكي العربي ، هنا برز وتكون خط ” آب ” في تبني هذه السياسة بالتناغم مع موقف السياسة السوفييتية حول رؤيتها بمصير الاحزاب الشيوعية العربية ، والشك بقدراتها على تعبئة الجماهير وقيادتها نحو البناء الاشتراكي .
وقد أقر خط آب في إجتماع اللجنة المركزية عام ١٩٦٤ المنعقد في العاصمة ” براغ ” بالاغلبية فقط أعترض عزيز الحاج عليه وتحفظ أراخاجادور على التصويت ، وخط آب هو أمتداد للنهج الستاليني اليميني وتعزيز للسياسة السوفيتية باتجاه تهميش دور الحزب الشيوعي العراقي في قدرته على تعبئة الجماهير وقيادته على العمل الثوري في البناء الاشتراكي من خلال مفهوم التطور اللارأسمالي والذي أعتمده الحزب الشيوعي في سياسته العامة في مؤتمره الثالث العام ١٩٧٦ المنعقد في بغداد تحت شعار ” من أجل ترسيخ وتعميق المسيرة الثورية وتوجه العراق صوب الاشتراكية ” . وفي إجتماع اللجنة المركزية المنعقد في بغداد نيسان العام١٩٦٥ أثير نقاشاً حاداً حول خط آب وتداعياته السلبية بين الناس وجماهير الحزب فتم رفضه بالكامل من قبل المجتمعين ورميت كل قراراته السابقه في سلة المهملات ، وأنتهجوا سياسة جديدة وصدروا بياناً ضد حكومة عبد السلام عارف ودعوا الى إسقاطه . وحاول عزيز محمد بعد عودته من موسكو بأعتماد سياسة خط آب بصيغة التطور اللارأسمالي ، وفي الأخير نجح بعقد جبهة وطنية وقومية مع البعثيين في تموز عام١٩٧٣ .
الدكتور خليل عبد العزيز في كتابه سلط الضوء على أحداث مهمة مقتطعة أو مجزء من التاريخ فعادها الى مكانها المفترض من خلال تجربته النضالية والإعلامية والسياسية .
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط