عن لغز الحياة وسر الوجود في 3ح ، تنشر الأثنين ح 1 (*) د. رضا العطار
كان القرن التاسع عشر قرن الصراع بين العلم والدين . ولكن عندما ننظر في هذا الصراع في الوقت الحاضر بالمنظور الحديث نلاحظ انه كان قائما على اشياء تافهة , لا يبالي بها اليوم لا رجل الدين ولا رجل العلم . فقد كان النزاع بين الاثنين قائما على التناقض بين ما ترويه الكتب الدينية عن خلق العالم ونظام الكون و مدى صحة الروايات التاريخية ونحو ذلك . فكان العلم يقول قولا وكان الدين يقول قولا اخر .
النزاع القديم هذا ليس موجود الان وان وجد بيننا فلا يؤخذ على مأخذ الجد . فإن مصداقية القصة المروية عن يوسف ابن يعقوب مثلا من عدمها لا تزعزع ايمان احد في الاديان الثلاثة الاسلام واليهودية او المسيحية مثلا . لأن الايمان الديني لا ينحصر في هذه الرواية . وانما له مفهوم واسع جدا يتنوع منه عقائدا وافكارا , كما نرى في البوذية والاسلام والبرهمية وغيرها. فمصلحة العقيدة تقتضي النظر في روح هذه الاديان مجتمعة بغية استخلاص اللباب منها والبحث بعد ذلك فيما يتناقض هذا اللباب مع العلم.
يبدولنا ان الناس او بالأحرى العلماء قد صار عندهم في النظر الديني او الصوفي حرمة, لم يكن يشعر بها علماء القرن التاسع عشر. ونحن نعزو هذا الانقلاب الخطير في الافكار الى الفلاسفة العالميين امثال – كنت الالماني وبرجسون الفرنسي – .
فقد شرع – كنت – في ختام القرن الثامن عشر ينتقد الذهن الانساني ويقول انه عاجز في الوقوف على كنه الحقائق. لأنه لا يعرف غير صورتها كما تظهر له. فنحن نعرف الظواهر لا الحقائق اي اننا لانعرف جوهر الاشياء التي تبدوا لنا في هذا لعالم وانما نعرف الافكار التي تؤلفها اذهاننا عنها. فنحن أزاء العالم او الكون كالرجل في غرفته يتطلع من النافذة الى الشارع ويرى السابلة, والنافذة هي واسطة التعارف بينه وبين هؤلاء الناس وكذلك حالنا نحن ايضا في ادراك حقائق هذا الكون. ننظر اليه عن طريق حواسنا واذهاننا ولا يمكننا الاتصال به مباشرة فلا نعرف عنها الا ما تصوره هذه الذهان و تكونه هذه الافكار.
وقد كان من اثر هذه الفلسفة ان تزعزعت المادية في القرن التاسع عشر, ثم جاءت نظرية التطور لدارون في 1859 . . ومن ينظر اليها يعتقد لأول وهلة انها زعزعت الاديان كلها. لأنها انكرت روايتها للخلق ولكن يجب من جهة اخرى ان نذكر ان هذه النظرية قد اضعفت الثقة بالذهن الانساني لأنها اعتبرته ناقصا يتطور ويسير نحو الكمال, و ما دامت الافكار هي عبارة عن العلاقة بين المادة والذهن , فإن هذه الافكار تتطور ايضا بتطور الذهن فما نظنه حقائق انما هو افكار دائمة التطور فصحتها هي على الدوام صحة نسبية غير مطلقة.
وظهر برجسون الفرنسي في العصر الحديث الذي تناول اللغز المحير للحياة والسر الغامض للكون, محاولا طرحه على بساط البحث بأسلوبه المبتكر مؤكدا على استنقاص الذهن البشري وعدم كفايته في درك حقائق الكون . وبرجسون منقوع في نظرية التطور. يسير فيها على هداية ولا يخبط . فهو يقول ان حياة الحيوان كما نستقريها الان مقسومة الى قسمين من حيث الوعي والادراك. وهذان القسمان هما
1 – حياة الحشرات التي تعتمد في الادراك على الغريزة بلا حاجة الى معرفة مكتسبة. 2 – وحياة الانسان والاحياء الراقية تعتمد على العقل الذي يقود الى معرفة مكتسبة.
ولا يشك احد في اختلاف الغريزة عن العقل وانهما سبيلان مختلفان للأتصال بحقائق هذا الكون. ولكن لما كانت الاحياء منحدرة من اصل واحد, نبعت منه وتفرعت عنه. فاننا نجد فيها جميعا بذرتي الغريزة والعقل . ففي النمل الذي تسيره الغرائز مثلا قد انجز اكثر من الانسان في مجال الغريزة, لأنه اقرب الى الحياة من الانسان, يكفي ان تعرف ان مخلوقات ضخمة قد انقرضت قبل ملايين السنين, لكن النمل استمر في وجوده ضمن سلم التطور, فضلا انه يمتلك شيئا طفيفا جدا من العقل.
يزخر الانسان بكوامن الغرائز. والغريزة والعقل نشأ كلاهما لقضاء ضرورات الاحياء من طعام وتناسل ودفاع . ولكن العقل في الانسان قد تجاوز هذه الضرورات واتجه الى البحث الفلسفي واستحال ذهنا صافيا يبحث عن حقائق الكون بهدف كشف سره عن طريق المعرفة. وكذلك الغريزة يمكن ان تستحيل الى بصيرة. وتكون عندئذ اصدق نظرا في استكناه الحقائق من الذهن. هكذا نرى ان العقل المنزه عن الاغراض المعيشية قد استحال ذهنا.
وكذلك الغريزة المنزهة عن الاغراض المعيشية قد استحال بصيرة.
فبرجستون يقول ان اذهاننا لا يمكنها ان تقف على حقائق الاشياء لانها انما نشأت من العقل. وهذا العقل نشأ لكي يتناول المادة ويصوغها في القالب الذي يهواه لمصالحه المعيشية. فهو اذا تنزه عن هذه الاغراض المعيشية صار ذهنا. ولكن خصلته الاولى تبقى فيه, وهي تناول المادة وصياغتها، فيصير ذهنا مخترعا. ولكنه لا يمكنه مهما ارتقى ان يبلغ كنه الحياة.
لكن الغريزة تختلف عنه في ذلك . فان الزنبور الذي يذهب الى يرقة احدى الحشرات ويلسعها بحيث تكفي اللسعة للتخدير دون الموت. ثم يبيض فيها بيضة واحدة , حتى اذا تفقأت البيضة، خرجت اولاد الزنبور منها واكلت جسم اليرقة وتغذّت منها, هو اقرب الى سر الحياة بغريزته منا نحن باذهننا. فانه يجري دون معرفة مكتسبة, حيث انه يغرز حمته في جسم اليرقة فلا يقتلها, وانما يتصل بأعضائها, كما يتصل عصب الانسان بأمعائه. فهذه الاعصاب في الانسان تسيطر على الامعاء وتجعلها تهضم الطعام وتمثله بدون معرفة مكتسبة. ولكن هذه السيطرة لا تقوم بالطبع الا بتآلف وتفاهم بين الاثنين. ولكن هذا التفاهم غريب عن اذهاننا لأنه من نوع اخر. وكذلك التفاهم بين الزنبور واليرقة, او بين النملة والمن الذي تحلبه. فانه غريب ايضا عن اذهاننا, لكنه يبين لنا ان هناك طريقة أخرى للوصول الى المعرفة, هي اقصر وايسر جدا عن طريقة الذهن . وهذه الطريقة هي طريقة البصيرة.
* فن الحب والحياة للعلامة سلامه موسى
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط