قراءات جديدة في الشعر الاندلسي

الاستاذ الدكتور محمد تقي جون

يكثر هذه الايام الاهتمام بالأدب الاندلسي وجمعه ودراسته في دراسات موسعة ومعمقة ودقيقة، وفي اسبانيا توجد حركة بعث للقومية الاندلسية قادها (انفانتي) وكذلك اعادة للإسلام، الا انه اسلام اسمي وليس دينيا (يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر).
هدف المحاضرة
تهدف المحاضرة الى:
أولا- اعتماد البحث العلمي الجاد والحر وفق نظرية حفريات المعرفة للوصول الى نتائج صحيحة، وليس النقل بلا تمحيص وتريد أصوات الاخرين، ودفع طلبة الدراسات العليا الى التمحيص والمناقشة والترجيح في التعامل مع النصوص والدراسات السابقة للخروج بنتائج جديدة ومهمة، وعدم جعل الرسائل والاطاريح متونا مثقلة بالهوامش الكثيرة فقط.
ثانيا- دراسة الادب الاندلسي دراسة شمولية جوهرية تقييمية تضعه في مكانه الصحيح قبالة الادبين المعاصرين له: الاموي والعباسي، وعدم المبالغة والتعصب واضافة ما ليس فيه شأن كثير من الدراسات الاندلسية، وتوجيه الدراسات وتركيزها في المجال الذي يتميز به هذا الادب دون سواه وله فيه الحظ والنصيب الاوفر.
ما يخص الهدف الاول وهو ممهد للثاني، اضرب ثلاثة أمثلة في الدين والتاريخ والادب:
– ذهب كبار شراح القرآن الى أن قول الله تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) يعني أن أمر الله يتحقق فورا (كن فيكون) وهذا التفسير شوش على الناس في كل الازمان، وحال دون فهم الله في هذا الشأن، فيوجد مثل كردي يقول (خدا ئيقره صابرس كافرس) أي ان الله يصبر على الظلم والخطأ لدرجة يبدو كالكافر (قاسي القلب)!! وهو تجاوز عظيم على ذات الله، وعدم فهم التعامل معه. وكذلك قول عن امرأة: (ما ضرني عاد بل ضرني حلمك على عاد) ومن تكون هذه المرأة لتحاسب الله جل جلاله، والله لا يعاتب ولا يحاسب، بل يطلب منه العبد وينتظر ويقبل كل ما يأتي من مشيئة الله. والتفسير الصحيح للآية ان الله اذا أراد أو وافق على شيء يقول (كن) فيكون: فورا أو بعد اشهر او سنين، بدليل قوله تعالى (أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ).
– في التاريخ والانساب غث كثير يجب التنقير فيه.
– في الادب نجد فحول واساطين الدارسين والمثقفين كطه حسين والعقاد وشوقي ضيف وغيرهم يرددون قالة أن الشعر العباسي امتداد للشعر الجاهلي والاموي، ولم ينتبهوا على أن الشعر العباسي على قسمين: قسم امتداد للتراث العربي وهو شعر المخضرمين مثل ابن هرمة وابن ميادة وعبد الملك الحارثي، وقسم أسس لشعر جديد جمع التراث الى الثقافة والمزاج الفهلوي والفارسي وهو (شعر المولدين) كبشار وابي نواس وابي العتاهية وغيرهم، ومنهم من مزج بينهما كابي تمام. وقد رفض هذا الشعر علماء العرب كابي عمرو بن العلاء والاصمعي وابن سلام الجمحي فلم يضف عباسيا واحدا الى طبقاته، وقَبِله نقاد أكثرهم عجم كقدامة (يوناني) والامدي (كردي) والجرجاني (فارسي) وغيرهم، ونحن نحتاج الى (نقد لنقدهم) لانهم تناولوا الشعر المولد ولم يتناولوا كثيرا الشعر العربي عدا نظرية (عمود الشعر) ويعوزها الكثير من النضج.
والقول الفصل لبروكلمان في تقسيمه الادب العربي: الجاهلي والاموي عدهما ادبا عربيا، والعباسي عده ادبا اسلاميا مكتوبا باللغة العربية، وقال: منذ 1900 فصاعدا اصبح الادب العربي يتجه صوب أوربا. وقد اعترف ابو الفرج الاصفهاني باختلاف الشعرين في قوله في مقدمة (الاماء الشواعر): (إن الأمويون لم يكونوا يختارون مَن في شعره لين ولا يرضون إلا بما يجري مجرى الشعر الجزل المختار الفصيح، وإنما شاع هذا في دولة بني هاشم (العباسيين).
هذه امثلة لوجوب البحث العلمي المستقصي وليس الترديد الببغائي للأمور على علاتها. قال الحارث اللَّيثيّ للامام علي كيف نظن أنّ طلحة والزُّبير كانا على ضَلال؟ قال الامام: الحقَّ لا يُعرفَ بالرّجال، اعرف الحقَّ تَعرِفْ أهله. وحين نشرت بحثي (اغاليط مصطفى جواد) كتب احد الاساتذة هل ما قلته فات فحول اللغة. قلت له: ان الله لم يقصر فضله على جيل دون جيل، وكل شخص مهما بلغ من العلم تفوته اشياء كثيرة.
الادب الاندلسي قراءة ناقدة
في عام 92هـ دخل العرب اسبانيا (الاندلس) بقيادة دينية لـلتابعي (موسى بن نصير) وعسكرية لـلقائد البربري (طارق بن زياد) وكانت الدول القديمة كلها تقوم على نظرية دينية فالدولة الاموية والعباسية قامت على نظرية (الائمة من قريش) والدولة الفاطمية قامت على نظرية (الامام المعصوم) وقامت الدولة الاموية في الاندلس على (المذهب الظاهري ثم الشافعي) وقامت دولة المرابطين (على المذهب المالكي) واتبع الموحدون (نظرية دينية متشددة، تدعو الى تنقية العقيدة من الشوائب).
وعلى الرغم من كن موسى بن نصير تابعيا فان الوليد بن عبد الملك استدعاه وأوقفه في الشمس وهو يعاني (النسمة = الربو) فمات. واستخلفه ابنه (عبد العزيز) فتزوج زوجة (لذريق) حاكم اسبانيا المقتول لكونها فاتنة، فانكرت عليه ان يحيِّيه الجند بتحية الاسلام (السلام عليكم) وفرضت عليه ان ينحنوا له مثل زوجها السابق، فأمر بأن ينحنوا له فقام الجنود بقتله. وهذه الحادثة مهمة في قراءة تاريخ الاندلس وظلاله في الادب وسائر الامور الاخرى. فهي تظهر ان العرب تأثروا ببيئة الاندلس أكثر مما أثروا فيها.
فلم يلتزم علماء الدين بلبس العمائم، والمرأة لها حرية التنزه والخروج عكس المرأة في الشرق، ونجد للحب أهمية قصوى في حياة العرب مثلما هي لدى الاسبان الذين كانوا يقدسون الحب، ونجد ابن حزم الظاهري (رجل دين وعلم) يؤلف كتابا في الحب (طوق الحمامة في الالفة والألاف) ويروي حكايات عن الحب الذي مارسه مع الشقراوات في شبابه، ويمدح الشقراوات ذوات العيون الزرق، وهي سابقة في الشعر العربي فالشعراء تعودوا مدح العربيات السمراوات. واقترح احد النقاد الاسبان أن يسمى شعر الغزل الاندلسي بـ(شعر الحب) لانه أصدق في التعبير عن الممارسة العملية له، باعتبار ان شعراء المشارقة يتغزلون دون ممارسة الحب ضرورة. بل نجد اعترافا بالقبلة الافلاطونية التي كانت ولا تزال مباحة في اسبانيا وارى (ولادة بنت المستكفي) معبرة عن تلك القبلة في قولها (وأعطي قبلتي من يشتهيها).
ثقافة الاندلسيين عربية فقط
ان العرب اكتسحوا الاسبان ودفعوهم الى الشمال ثم توقفوا بعد معركة (بلاط الشهداء) المميتة التي استشهد بها القائد عبد الرحمن الغافقي، فكان الاسبان والفرنج (الفرنسيين وغيرهم) أعداء لهم فلم يتعاطوا معهم (بتاتاً ومطلقا وقطعا) وانا اكرر هذه الالفاظ للتأكيد بأن كل الآداب والعلوم التي قامت في الاندلس لم تكن تلاقحا مع الاسبان وسواهم، بل (عربية مشرقية) اخذوها كلها من المشرق واضافوا اليها طابعهم الذي تكون مع الوقت مشكلا (الشخصية الاندلسية) التي أنتجت (الشعر الاندلسي) وغيره.
والدليل ان المصطلحات التي استعملوها كلها اخذوها من المشرق مثل (العالم العلوي والعالم السفلي) الموجود في الميثولوجيا العالمية فالعالم السفلي (عالم الاموات)، والعالم العلوي (عالم الاحياء) ونحن نقرأ للمعتمد بن عباد:
وقل لعالمها السفلي قد كتمت
فضيلة العالم العلوي أغماتُ
فالمصطلحان لم يأخذهما المعتمد من الاسبان، بل من الفيلسوف ابن سينا، ومعناهما مغاير لما عند الغرب؛ فالعالم السفلي هو (الارضي) والعالم العلوي هو (السماوي) وفي رواية اخرى للبيت (وقل لعالمها الأرضي)، ونجد ابن رشد فيلسوف الاندلس حين ترجم (فن الشعر) لأرسطو يقول: التراجيديا هي فن المدح، والكوميديا هي فن الهجاء، وهذا يعني انه لم يطلع على ثقافة الغرب، بل كان عقله محصورا في التراث العربي. ولهذا لم تعرف الاندلس الملحمة والمسرحية وبينها وبين الغرب امتار معدودة.
ما يخص الادب عموما والشعر خصوصا، فالأندلس كالمشرق استنكفوا من ترجمة أشعار الامم الاخرى، لانهم لم يعترفوا بوجود شعر غير الشعر العربي. وهو ما صرح به الجاحظ ونشوان الحميري، فقال الجاحظ عن (الفهليد الفارسي) هو يشبه الشعر وليس شعرا، وقال الحميري الشعر للعرب فقط لا يشاركهم فيه الامم، ولكن لهم كلام جميل وخطب طويلة يسمونها اشعارا. بل ذهب الجاحظ الى مدى غريب فزعم ان الشاعر الاعجمي المجيد أما أن يكون دعيا في الشعر او دعيا في النسب.
عمق الشعر الاندلسي
حين دخل العرب الاندلس عام 92هـ دخلوا عساكر، ولم يكن مع الجيش شعراء محترفون، لان طبقة الشعراء المحترفين ستكون في العاصمة والمدن الكبرى عند الخليفة والامراء الامويين. ولكن يوجد شعراء هواة وفي كل جيوش في العالم يوجد هواة وليس محترفين في فن الشعر. وعام 92 يعاصر شعراء امويين كبار مثل جرير والفرزدق (كلاهما مات عام 110هـ)، وهؤلاء الشعراء الاندلسيون (مجازا) وهم اوائل الشعراء ومن جاء بعدهم في حقبة (ولاة الاندلس) مثل أبي الخطار وجعونة ليس لهم عمق شعري غير الشعراء الامويين، ولانهم غير مبدعين فقد كانوا مقلدين للمشارقة الجاهليين والامويين. فأبو الخطار احد ولاة الاندلس يقول:
قتلت به تسعين تحسب انهم
جذوع نخيل صرعت في المسايلِ
مأخوذ من قول عنترة (بطل كأن ثيابه في سرحة) أي كأنه شجرة عليها ملابس، لانهم يصفون اعداءهم بالطول ليدلُّوا على قوتهم. ولم تنتج حقبة الولاة شاعرا مبدعا ولا شعرا بطابع اندلسي. وهنا اوضح حقيقة يجب معرفتها لفهم الادب الاندلسي وهي حقيقة استمرت الى نهاية الوجود العربي على الجزيرة، تلك هي ان الشعر الاندلسي خرج من عباءة الشعر العربي أو من ضلعه الايسر، فظل يقلده ويستمد منه وجوده واستمراره، لان الشعر المشرقي الاموي والعباسي يمثل عمق الشعر الاندلسي، بينما الشعر المشرقي عمقه موغل في القدم، يرده الجاحظ الى 150 سنة في الجاهلية، وآخرون يجعلونه 200 سنة، ورده احد المستشرقين الى ايام النبي سليمان (ع)، وهذا الشعر اخذ وقتا كافيا للنضوج حتى صار شجرة عملاقة قطر ساقها عدة أمتار في الوقت الذي كان الشعر الاندلسي طحلبا او نبتة يتشكل لها ساق توا.
وهذا التفاوت يفسر تقليد الشعر الاندلسي للعباسي بشكل احرج الاندلسيين انفسهم كما يقول احد النقاد. واعترف بذلك ابن بسام بقوله (أبوا الا متابعة أهل المشرق) فاذا ظهر شاعر كبير في المشرق كالمتنبي ظهر شعراء اندلسيون كنسخ له، وكل غرض واسلوب وظاهرة فنية عرفت في الاندلس لابد ان المشارقة سبقوا الاندلسيين اليها، فرثاء المدن ليس فنا اندلسيا اصيلا فقد رثى الخريمي بغداد ورثى ابن الرومي البصرة قبل الاندلسيين، وليس ابن خفاجة مبتكر فن وصف الطبيعة، بل سبقه ومهد له (الصنوبري). وكذلك الكتاب؛ ظهر الجاحظ فظهرت مدرسته في الاندلس وشاع الازدواج والجدل، وظهر بديع الزمان فشاعت مدرسته البديعية في الاندلس وهكذا.
لاجل ذلك لم يظهر (نقد اندلسي) الا أشياء بسيطة هي اراء وشروح حاول الدارسون أن يسموها نقدا، وهي لا تصل الى النقد المنهجي، حتى حازم القرطاجني لم يجعل كتابه (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) في نقد شعراء الأندلس، بل كتاباً يتناول قضايا الشعر بشكل عام مثل: أهمية الشعر، بواعثه ، أقسامه، المحاكاة في الشعر، الصدق والكذب، اللفظ والمعنى، بناء القصيدة، المطالع، المخلصات في القصيدة، الأسلوب، ولم يتناول المنهاج كالموازنة والوساطة شاعراً أو ظاهرة. وسبب عدم ظهور النقد في الاندلس هو عدم ظهور شعر جديد كشعر المولدين أو شاعر متفرد كالطائيين والمتنبي، وهذان السببان قام لأجلهما النقد العباسي.
ومع الاعتراف بوجود شعر اندلسي رائع وشعراء مميزين الا انه لا يجاري الشعر المشرقي لعمقه التاريخي والعربي لانه مكتوب في بيئة عربية منتجة، بينما الشعر الاندلسي يكتب في بيئة غير منتجة عربيا فيقاوم العجمة والعامية.
ومع الاعتراف بشعر جيد فاننا نقرأ قصصا وهمية تحكي عن تحديات وانتصارات شعراء اندلسيين على شعراء عباسيين قوامها الخيال وليس الواقع. فيحيا الغزال يتكلم عن سفره الى بغداد ليتحدى معاصره ابا نواس ويهزمه في عقر داره، وحين وصل بغداد عرف ان النواسي قد مات، فاذا به يقرأ اشعاره على انصار ابي نواس لينال اعجابهم ويعترفوا بتفوقه على شاعرهم وانه اعجوبة الدهر، والحقيقة ان ابا نواس شاعر عملاق والغزال شاعر تافه قال غرسيه غومس شهرة الغزال جاءت من ظرفه وليس فنه الشعري.
وزعم ابن عبد ربه انه التقى بالمتنبي في مصر، وقرأ عليه اربعة ابيات في الغزل فما كان من المتنبي الا ان رقص انبهارا وقال لابن عبد ربه (سيأتيك أهل العراق زحفا الى الاندلس). وعمل ابن شهيد رسالة (التوابع والزوابع) وهي سياحة خيالية الى (عالم شياطين الشعراء والكتاب) وهي تقليد لـ(رسالة الغفران) للمعري، وفي الرسالة يلتقي ابن شهيد بشياطين الشعراء المشارقة من العصر الجاهلي وحتى زمنه في القرن الخامس الهجري، فيعترفوا بتفوقه على شعراء المشارقة، ثم يقابل شياطين الكتاب فيأخذ اعترافهم بانه هزم كتاب المشارقة حتى الجاحظ. وهذه القصص، وهي كثيرة، تظهر احساس الاندلسيين بأن المشرق يبقى قبلتهم ويبقى القمة التي لا يمكن التطاول عليها. وقد تبرم ابن بسام من ذلك ورأى ان الله لم يقصر الاحسان على اهل المشرق.
واذا وقفنا عند ابيات ابن عبد ربه الاربعة الغزلية التي زعم ان المتنبي انبهر بها وسلَّم بعظمتها نجدها لا اصالة فيها ولا جديد في الفاظها ومعانيها، وكلها مأخوذ من المشارقة قال ابن عبد ربه:
يا لؤلؤاً يسبي العقولَ أنيقاً
ورشاً بتقطيعِ القلوبِ رفيقا
ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثله
درَّاً يعودُ من الحياءِ عقيقا
وإذا نظرتَ إلى محاسنِ وجهها
أبصرتَ وجهكَ في سناهُ غريقا
يا من تقطَّع خصرهُ من رقةٍ
ما بالُ قلبك لا يكونُ رقيقا؟!
فـ(تشبيه المرأة باللؤلؤ) وانها (تسبي العقول) و(تشبيهها بالغزال) وانها (تقطع القلوب) قتله شعراء المشارقة استعمالا وكرروه حد الملل. بل ان عامة الناس تشبه المرأة بالغزال والبقر لكبر وجمال عيونها وقد دفع (النعمان بن المنذر) حياته ثمنا لهذا التشبيه؛ فبعد ان قتل الشاعر (عدي بن زيد) صار ابنه (زيد) يتربص به الدوائر، فاغرى كسرى ببنات النعمان، وحين ارسل كسرى اليه خاطبا قال للمترجم (أما في مها فارس ما يملأ عين الملك) فترجمها لكسرى بدفع من زيد (أما في ايران بقر تملأ عين الملك) فاستشاط كسرى غضبا وقتل النعمان.
واحمرار الوجه من الحياء معروف مقتول ايضا. وقوله:
وإذا نظرتَ إلى محاسنِ وجهها
أبصرتَ وجهكَ في سناهُ غريقا
نسخة باهتة من صورة لابن الرومي والمتنبي. يقول المتنبي:
شامِيَّةٌ طالَما خَلَوتُ بِها
تُبصِرُ في ناظِري مُحَيّاها
فَقَبَّلَت ناظِري تُغالِطُني
وَإِنَّما قَبَّلَت بِهِ فاها
يقول المتنبي: حين اختلي بحبيبتي نتقارب الى درجة انها ترى صورتها في عيني، فقبلت عيني توهمني بانها مجبرة على الفراق ولكنها قبَّلت صورتها في عيني ولم تقبّلني. وهذه الفكرة عالمية فنحن نجد شكسبير يستعملها في (تاجر البندقية = the merchant of fennec)
على لسان بسانيو قائلا لحبيبته بورشيا (اقسم بعينيك اللتين ارى بهما نفسي) فتلتفت الى اصدقائها الجالسين فتقول: انتبهوا جيدا على كلامه، هو يقسم بصورته المنطبعة في كلتا عيني، انه لا يقسم بعينيَّ بل بأنانيته وازدواجيته).
اما وصف المرأة بكبر الورك ودقة الخصر فمقتول مكرور أيضا، قال عمر بن ابي ربيعة (تكاد عند القيام تنبتر) وقال المتنبي:
أَفدي ظِباءَ فَلاةٍ ماعَرَفنَ بِها
مَضغَ الكَلامِ وَلا صَبغَ الحَواجيبِ
وَلا بَرَزنَ مِنَ الحَمّامِ ماثِلَةً
أَوراكُهُنَّ صَقيلاتِ العَراقيبِ
فالبدوية كبيرة الردف دقيقة الخصر طبيعة والحضرية مع تمنطقها المفتعل وصبغها لشعرها تشد خصرها ليبدو نحيلا وتبرز اردافها.
نخلص الى ان ابيات ابن عبد ربه لا جديد فيها من لفظ او معنى، ونعترف بتميزها في (الموسيقى) و(رشاقة والالفاظ) وعذوبة (السبك) وهذا هو عموم الاشتغال الاندلسي قال غرسيه غومس وهو افضل ناقد اسباني درس الادب الاندلسي (ان الشعراء الاندلسيين لم يتعبوا انفسهم في الغوص على المعاني) بل كانوا يأخذون المعاني الواضحة. وهنا أؤشر ابن عبد ربه البداية الحقيقية للشعر الاندلسي الممثل لطابعه: رشاقة اللفظ ووضوح المعنى، وطغاوة الموسيقى.
وفي بحثي (الشعر الاندلسي الضفة الثالثة للشعر العربي) اكدت ان الشعر العربي له ثلاث ضفاف: اللفظ والمعنى والموسيقى، اشتغل الجاهليون على اللفظ، واشتغل العباسيون على المعنى واشتغل الاندلسيون على الموسيقى، فكانت قصائدهم توزيع موسيقي جديد غير التوزيع العروضي الذي لا ينهض بالموسيقى كثيرا، وادى الالتزام الشديد بتفاعيل العروض الى جمود القصيدة المشرقية مع الوقت. بينما القصيدة الاندلسية تبنَّت موسيقى اخرى يصنعها الشاعر بتوزيع الكلمات موسيقيا مما جعل كل قصيدة مختلفة عن الاخرى في البحر نفسه كما هي الحال في مقامات الغناء فمثلا لحّن على (مقام السيـگـاه) الاغاني الاتية ولكل منها طابعه الموسيقي (سيرة الحب، للصبر حدود، شمس الاصيل لأم كلثوم.)، (ظلموه، أي دمعة حزن،  لعبد الحليم حافظ) (جاروا الحبايب لوديع الصافي)، (علّي طير وعلّي لفيروز) (يا نسيمات الصبا لصباح فخري) ولكن سامع هذه الاغاني لا يحس انها ذات موسيقى واحدة.
ولتوضيح ذلك نشرح أبياتا للسياب وهو موسيقار شعر من الطراز النادر، بدليل انه كتب على المتدارك بتفعيلته (فاعلن) ولم يقدر احد قبله الكتابة عليه:
بعدما أنزلوني سمعتُ الرياخْ
في نواحٍ طويلٍ تسفُّ النخيلْ
والخطى وهي تنأى.. اذن فالجراحْ
والصليب الذي سمَّروني عليه طوال الاصيل
لم تمتني.. وأنصتُّ كان العويل
يعبر السهل بيني وبين المدينه
مثل حبل يشدّ السفينه
وهي تهوي الى القاعْ
فنغمة (تم تتم = فاعلن) صعب تحقيقها من الشعراء لسببين: الاول عدم التعود على الاتيان بكلمات فيها سبب خفيف ووتد مجموع بتسلسل. والثاني ان التقيد بهذه النغمة كلمة كلمة يضيف عبئا نغميا آخر. ولكن السياب بقدرته الهائلة على تحسس النغم والتصرف بالإيقاع تجاوز المشكلتين، فألغى نغمة (فاعلن) من تفكيره الموسيقي، أي ألغى عروض البحر برمته وجعل أمامه الايقاع فقط. فلم تأت نغمة (فاعلن) في عروض كلماته الا هامشيا، واشتغل القصيدة على ايقاع: فع، فعولن فاعلاتن.
بعدما / أنزلوني / سمعتُ / الرياحْ
فاعلن / فاعلاتن/ فعولن / فعول

في / نواحٍ / طويلٍ / تسفُّ / النخيلْ
فع / فعولن / فعولن/ فعولن / فعول
ومثله قول بن زيدون:
متى/ أنبّيك/ ما/ بي يا/ راحتي/ وعذابي
فعو/ مفاعيلُ/ فع/ فع فع/ فاعلن/ متفاعل
متى/ ينوب/ لساني في/ شرحه/ عن/كتابي
فعو/ فعولن/ فعولن فع/ فاعلُ/ فع/ فعولن
نجد الشاعر ابن زيدون يتخلى عن تفعيلتي البحر المجتث:(مستفعلن فلاعلاتن) الطويلتين ويشتعل على ايقاعات قصيرة، فأورد (فع 7 مرات)، (فعو 5 مرات)، (فاعلن 3 مرات).
وكان اشتغال الموشحات اكثر على فكرة عروض القصيدة وليس عروض البحر.
واشتغلت الموشحات على (التلحين) فهي شكل شعري يغنى، وهنا لابد من التاكيد بان الاندلس بلغت مستوى من التلحين والطرب لا يقاس به المشرق، وصار الشاعر الاندلسي تتميز اشعاره عن المشرقي بموسيقى الكلمات او ما سمي بـ(الحرف المنغم). فكان الشاعر اذا كتب القصيدة تأتي كأنها ملحنة كما في ابيات ابن زيدون:
وَدَّعَ الصَبرَ مُحِبٌّ وَدَّعَك
ذائِعٌ مِن سِرِّهِ ما اِستَودَعَك
يا أَخا البَدرِ سَناءً وَسَناً
حَفِظَ اللَهُ زَماناً أَطلَعَك
إِن يَطُل بَعدَكَ لَيلي فَلَكَم
بِتُّ أَشكو قِصَرَ اللَيلِ مَعَك
واذا كتب الموشحة قام التلحين في الموشحة مقام العروض فجاء بآيات الحسن والجمال المبهر. التلحين يلغي العروض، لذا فالغالب في الموشحات انها غير موزونة او موزونه مكسورة في مواضع والقليل منها موزون تماما كموشحة (جادك الغيث) والموشحات تشبه في هذا (الاناشيد الوطنية القائمة على التلحين فهي في الغالب غير موزونة.
بــلادي بــلادي بـــــلادي    لــــــــكِ حُــــــبي وفــــــؤادي
الصدر متقارب والعجز رمل
لاحت رؤوس الحرابِ تلمع بين الروابي
هاكم وفود الشباب هيا فتوه للجهاد
البيت الاول العجر ترد فيه (مستعلن) وهي مكروهة في المجتث، والبيت الثاني (هيا فتوه للجهاد = مستفعلن مستفعلان) خروج عن البحر، ولكن بالتلحين تصبح مقبولة جدا بل أفضل موسيقى من الشعر الموزون.
وطني انت لي والخصم راغم وطني انت كل المنى
وطني انني ان تسلم سالم وبك العز لي والهنا
يا شبابنا انهضوا آن ان ننهضا
القصيدة موزنة وزن خاص وان قاربت المتدارك ولكنها تخرج عنه.
ومثله موشحة الاعمى التطيلي:
ضاحك عن جمان سافر عن بدر
ضاق عنه الزمان وحواه صدري
اه مما اجد
شفني ما اجد
قام بي وقعد
باطش متئد
وانثنى خوط بان ذا مهز نضر
عابثته يدان للصبا والقطر
فالمطلع: فاعلن فاعلان/ فاعلن مستفعل. الشطر الاول متدارك والشطر الثاني خليط من المتدارك والرجز. واغلب الموشحات لا وزن عروضيا فيها ولكنها مبهرة بموسيقى الالحان او موسيقى الكلمات، ولا فضل فيها للفظ او معنى، وهي افضل انتاج قدمه الاندلسيون، والشيء الذي تميزوا به دون المشارقة. وقد مر قول غومس ان الاندلسيين لم يُتعبوا انفسهم بالتنقير والبحث عن المعاني، فشعرهم ألفاظ بسيطة ومعان واضحة وموسيقى قوية لا تقهر. وحين كتب المشارقة الموشحات لم يحققوا فيها الموسيقى التي حققها الاندلسيون، فكانت موشحاتهم شكلا شعريا محضا.
العامية في الاندلس
معروف ان ارض الاندلس اسبانية (أوربية) فالعرب عاشوا فيها على ارض اجنبية وشعب اجنبي اسلم، وتزوج جميعهم من اسبانيات لانهم دخلوا الاندلس عساكر وليس عوائل. ومر ان الاندلسي تاثر اكثر مما اثر، لذا نجدهم مبكرا يتكلمون العامية (الرومانثية) بينما المشارقة تحولوا الى العاميات في القرون الوسطى. فتجد العرب الاقحاح يتكلمون في القرن الثاني لغة عامية اسبانية ثم انشؤوا لهم لغة عامية بتأثيرها فغرقوا في العاميات مبكرا. وقد القى ذلك ظلاله على اللغة والادب. فلسان الدين بن الخطيب يقول مقارنا بين نهر النيل في مصر وانهار الاندلس مستعملا (ش) الاسبانية التي تعني (1000) يقول (أين نيلها من شنيلها) أي أين نيل واحد في مصر من ألف نيل في الاندلس.
ومن اثار ذلك عدم اهتمام الشعراء الاندلسيين بفصاحة الفاظهم واستعملوا كلمات واضحة معروفة لان الشعر بجمهوره، فنحن اليوم مثلا نحترم المتنبي والبحتري ولكن نتعاطى شعر نزار قباني لانه بسيط اللفظ معروف مقبول من قبلنا. وما يخص العلوم فان دوزي يقول ان علماء الاندلس في اللغة والنحو كانوا يشرحون لطلبتهم بالعامية. والاندلسيون هم من روَّج العامية في اللغة فاكثر استشهادات دوزي في تكملة المعاجم العربي من كتب الاندلس.
كما روَّج الاندلسيون الشعر العامي (غير المعرب) وهو الزجل الذي مشى في الاقطار العربية كالنار في الهشيم، وصار بالتدريج يحل محل الشعر الفصيح في الاهمية لاستفحال الكلام العامي، ومن ازجالهم:
جازت فقلت بحييتي جوزي معي البيت بيتي
قات عسى كون زوجي يدري يقطع نويتي
ثلاث اشيا في البساتين لس تجد في كل موضع
النسيم والخضرة والطير شم واتنزه واسمع
في الختام أوصي بالاهتمام بالجانب الاهم في الشعر الاندلسي وهو (الموسيقى) وتركيز وتكثيف الدراسات فيها، كما ادعو الى قراءة الشعر الاندلسي وطابعه الرقيق وتأثيره في الشعر المشرقي والشعر الحديث.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here