الكتابة فعل أخلاق تاريخي

حمزة الحسن

لا تنتظريني هذا المساء،
الليل أبيض وأسود”.
* الشاعر جيرار دورنيفال.

لماذا لا نضع البحث والكشف والابداع والشجاعة الادبية والمغامرة الفكرية،
وخلخلة السكون وكشف الأقنعة،
والدفاع عن الكرامة البشرية كجزء جوهري من أخلاق الكاتب؟
الكتابة فعل تضامن تاريخي بتعبير رولان بارت،
أي انت من لحظة النشر تكون شريكاً في موضوع، قضية ما، مع جمهور واسع،
وتصبح الكتابة خارجك ولست أكثر من قارئ لما تكتب.

أليس النسج والسرد اللغوي والجمال من الأخلاق أيضاً؟
إختزال الانسان في موقف واحد حقيقي أو متخيل،
هو سلوك سلطة تؤرشف للناس،
لأن الانسان طاقة تحولات من الولادة وحتى الموت،
من اليقظة وحتى النوم وما بعد النوم،
ومن الغباء حبسه في حالة أو موقف وغلق حياته كملف.
أخلاق الكاتب والفنان في أن يعمل بكفاءة وموهبة وإخلاص وصدق وهذه أخلاق سامية،
وعكس ذلك لا تشفع له أخلاقه الاجتماعية لأنها شأن خاص
ولا أحد ينتفع بها بلفة كباب أو رغيف خبز إذا كانت ” الأخلاقوية” أخلاقاً.
ما الذي يهمنا مثلاً كيف كان يعيش البير كامو
أكثر مما يهمنا نصوصه الابداعية العظيمة
في الغريب والطاعون والمقصلة؟
هو القائل:
” ــ تعرفون إسمي ولا تعرفون قصتي، تعرفون ماذا فعلت ولا تعرفون الظروف التي مررت بها،
فتوقفوا عن الحكم عليّ وإنشغلوا بأنفسكم.”
ماذا يعني لنا أن فلوبير كان يشرب أكثر من خمسين
فنجان قهوة في الليلة الواحدة لكي يكتب،
أكثر مما تهمنا رائعته: مدام بوفاري؟
كارل ماركس كان في شبابه زبون حانات ومطاردة النساء وعليه
دعاوى مشاجرات كثيرة حتى عاشر خادمته وأنجب بنتاً دون علم زوجته سراً ولم يعلم بذلك إلا إنجلس،
لكنه قلب العالم حتى اليوم.
ماذا يعني لنا أن سلفادور دالي عشق
زوجة الشاعر بول ايلوار غالا وتزوجها،
أكثر مما تهمنا لوحاته؟
ما الذي ينقص، مثلاً، مثلاً، من غابريل ماركيز عندما لكمه
الروائي ماريا بارغاس يوسا مؤلف” حفلة التيس” عن الدكتاتور يوماً أمام زوجته مرسيدس،
وكلاهما حامل نوبل أكثر مما تهمنا روائعه في:
مئة عام من العزلة وليس للكولونيل من يراسله وحكاية موت معلن؟
ليست مسؤولية أحد محاكمة أو محاسبة الشاعر جيرار دورنيفال
لانتحاره فهو وحده عاش ظروفاً خاصة،
وهو وحده تعامل معها ونحن نسمع قصته من السطح ولا نعرف
كيف هي التفاصيل فلماذا ننشغل بحياته،
وننسى شؤوننا؟
عندما يخطر لي ديستوفسكي كان مدمناً على القمار والشراب،
لكن عظمته في رواية الجريمة والعقاب وفي غيرها،
أليس بناء عوالم مغايرة ونزع النقاب عن الزيف هي أيضاً أخلاق؟
في نوبة غضب وسعار قتل التوسير زوجته بحجرة في الشارع صدفةً،
لكن من المستحيل تجاوز كشوفات هذا العالم اللغوي،
حتى أن المحكمة نظرت بذلك .
قضى نيتشه سنوات في مصحات عقلية،
لكن لا أحد اليوم ينسى أو ينكر أنه هو مؤسس الحداثة الغربية.
أليست هذه أخلاقاً؟
رغم كل الهوان والاهمال والمتاعب التي تعرض لها نيتشة،
لكنه واثق من نفسه وقال عبارة تحمل نبوءة مذهلة واثقة:
” أنا رجل سيولد بعد موته”،
اليوم في الغرب يجري اكتشافه فهو مؤسس الحداثة الغربية.
ميشيل فوكو قضى سنوات في مصح عقلي إجباري مغلق،
لكنه هو من حرث الفلسفة الغربية وفضح تاريخ الغرب
المخفي والمسكوت عنه في كتابه المرجعي الذي غير تاريخ
الفكر والطب والثقافة:
” الجنون في العصر الكلاسيكي”.
الروائية النمساوية ألفريدي ألينيك تعاني من رهاب الخوف من البشر،
ولم تذهب لحفل نوبل لاستلام الجائزة،
لكنها مع ذلك لم تنس العراق ووضعت كتاباً ضد
الاحتلال بعنوان: بلاد القنبلة،
يوم كان مثقفوه يحتفلون بخرابه.
ما هي المشكلة إذا كان بيكاسيو تزوج 6 مرات،
وكان مولعاً بشراء الأحذية حتى أنه إشترى مرة أحذية كل المحل وعندما جاء بعده
لويس أراغون أحد شعراء المقاومة الفرنسية،
لم يجد حذاءً ليشتريه وبيكاسيو صفر المحل؟
بيكاسيو موجود في لوحاته الخالدة وليس في حياته الخاصة،
وأخلاقه في هذا الابداع الهائل.
أراغون نفسه قبل التعرف على إيلزا المثقفة
كان كحولكياً ينام على الأرصفة،
لكن إيلزا أعادت صياغته لذلك دفن معها في قبر واحد متحاضنين.
الفيلسوف البريطاني شوبنهاور كان يعاني من رهاب القتل،
ويخشى أن الروائي الفرنسي بلزاك يعبر بحر المانش ويقتله،
ولا ينام إلا والمسدس تحت وسادته،
لكن من ينكر فلسفة شوبنهاور؟
الروائي الكبير ارنست همنغواي مصارعة وملاكمة وحروب وتكسير صحون
ومشاجرات بارات وصيد واطلاق نار وعلاج من جنون الارتياب وأنهى حياته بالانتحار،
لكن أخلاق همنغواي في رواياته العظيمة:
لمن تقرع الاجراس، وداعاً أيها السلاح، والشمس تشرق أيضاً.
الشاعر بودلير ــ مخدرات وكحول.
الشاعر هولدرن ــ كآبة.
أنطونيور أرتر ــ قلق وانتحار.
كافكا ــ رعب من الحياة.
الشاعر لوتريامون ــ كآبة، موت في العشرين.
الفيلسوف ديكارت ــ شبه مجنون.
الشاعر الالماني نوفاليس ـــ قلق حاد.
غوته حاول الانتحار وفشل مرات فكتب رواية ” آلام فارتر”،
وجعل بطلها ينتحر بالإنابة عنه.
ثلاثة من كبار فلاسفة أوروبا سارتر وجاك ديريدا وسيمون دي بوفوار،
عصاب نفسي حتى أن ديريدا شكر العصاب لأنه منقذ من القطيع.
سارتر قال: الكتابة أنقذتني من الجنون.
فولتير وبلزاك وفلوبير، عادات غريبة، وجنون دوري.
الكاتب الأمريكي أدغار ألان بو، مخدرات وهلاوس وكحول.
الفيلسوف السويسري جان جاك روسو الذي غير حياة الغرب
بكتابه العقد الاجتماعي وهرب الى فرنسا كان يعاني من الخوف
وعقدة المطاردة والارتياب.
لحظة مؤثرة عندما وقفت أمام داره في جنييف قبل سنوات.
الروائي كونراد وموباسان وكامو والموسيقار بتهوفن،
والرسام كلود مونيه والرسام فان كوخ قلق وخوف وانتحار.
الروائية فرجينيا وولف كآبة وإنتحار.
عالم النفس فرويد نفسه عصاب نفسي إنتهى بالإنتحار،
لكن لا يمكن إنكار ثورته في علم النفس بعد أن جعل العقل حقلاً
للدراسة والبحث بدل تركه للمشعوذين.
الفيلسوف الدنماركي كيركغارد والشاعر الالماني ريلكه،
الروائي الروسي باسترناك والشاعر البرتغالي بيسوا قلق وكآبة.
الشاعر الروسي مايكوفسي، إنتحار، الرسام سيزان أيضاً،
جان جينيه والروائي المغربي محمد شكري، كحول ومخدرات وعصاب.
الموسيقار الألماني شومان كان يقيم حفلاً في منزله،
لكنه فجأة إستأذن من المدعويين لقضاء عمل،
ذهب إلى نهر الراين ورمى نفسه في النهر منتحراً،
لكن صيادين قربه أنقذوه وتشاجر معهم هههههههه.
ماذا تهمنا تلك الحادثة أكثر مما تهمنا موسيقاه التي تصدح
في صالات برلين وفينا وباريس وغيرها؟
الروائي الامريكي الكبير هنري ميللر بال في قفص المحكمة عندما صدر عليه
الحكم بسبب روايته: “ربيع أسود”.

الكاتب هاشم صالح نشر مرة دراسة قيمة عن” الجنون والعبقرية” تعرض لاسماء كثيرة ممن صنعوا حداثة الغرب،
لا يمكن وضع” العقل الاجتماعي” الملقن في تضاد مع” عقل الجنون الابداعي” لأن الجنون الحقيقي في العقل الاجتماعي ولأنه يصيب عامة الناس يسمى عقلاً،
لكن العقل الابداعي يسمى جنوناً لأنه حالة فردية في مجتمع أعمى،
وما هو أقسى من العمى أن ترى بوضوح في مجتمع أعمى: كأنك لا ترى.

هؤلاء الكبار وغيرهم عاشوا قلقين ليس لخلل فردي بل وجدوا أنفسهم
في نظام مؤسساتي كابح وتمردوا عليه وأسسوا الحداثة الغربية،
ولا يخضعون للمعارات الصبيانية التي تولعت بها نخبنا في التركيز على الشخص واهمال النص،
لأن البنية العقلية قبلية بقشور نقدية،
وحتى عندما يعيش هؤلاء في الغرب يعيدون على بعضهم إنتاج الرداءة
نفسها والغوغأة والصبينة،
لكنهم في الكتابة عشاق حداثة وما بعدها وعصافير وفراشات وأطفال ونسوان الحداثة الغربية من صنع مجانين من نوع اخر خارج القطيع:
الجلافة والفن والادب أمران متناقضان.

يقال اليوم في الغرب إن الحداثة الغربية من صنع مجانين،
لكنه الجنون الإبداعي وليس الخبل والعته.
هؤلاء كانوا أطفالاً عمالقة كشفوا دروباً جديدة،
بحساسية ورهافة ومغامرة فكرية خارج النمط والسياق،
ومن حسن حظهم أنهم عاشوا في مجتمعات متفهمة،
وفارغة من المعارات الزقاقية والقبلية كما في عالم المثقف ـــ البدوي العقلية.

هؤلاء واجهوا ظروفاً صعبة وهم وحدهم من تعامل معها،
وكل ما يهمنا أن أعمال هؤلاء خففت من ضراوة وحشية القتلة والسياسيين،
ويمكن تخيل العالم بلا هؤلاء العظماء.

القلق الفكري والوجع مصدر كل فن وأدب وفكر حقيقي وعميق.
يتباهى بعضنا بالـــ” التوازن” و” العقلانية” في
هذه المذبحة المستمرة،
وهو التوازن نفسه الذي نراه في المقابر وخيول الاسطبلات
بعد العلف ،
ونراه في الأبقار التي تسرح في العشب قرب المسلخ:
التوازن اليوم ليس نقيض القلق بل جوهره في عالم مضطرب وعاصف وينذر بمخاطر
كثيرة داهمة،
والعقلانية لا تتناقض مع السؤال والشك باليقينيات الجاهزة،
والوعي لا يتناقض مع اللاوعي بل يختلف عنه،
كما لا يتناقض الليل مع النهار بل يكمله،
ولا تتناقض الحياة مع الموت بل تختلف عنه وخاتمته الطبيعية،
والإنسان يبدأ بالموت قبل ومن لحظة الولادة في دورة مستمرة هدم وبناء حتى النهاية،
لكن المشكلة هي التفكير من خلال مفاهيم مستهلكة،
تحولت مع الزمن الى قواعد حياة،
وهذا الصنف المغفل تملئ به المقابر.
لا ينشغل الغربي كيف عاش فولتير وماذا كان يأكل سقراط ومن هي عمة
أو جدة الرسام بول غوغان ومن هي عشيرة تولستوي وعمامه،
وكل ما يهمهم التراث الفكري والثقافي والفني العظيم.
من تناقضاتنا نستعمل منتجات العقل الغربي كالهاتف والطائرة والدواء والسيارة وغيرها الكثير
دون ان نهتم بالصانع خلفها سواء كان حشاشا او قديسا او زنديقا،
وفي حالات نلعن هذا العقل المنتج وفي الوقت نفسه نعيش على بضاعته،
فلماذا لا تكون القاعدة نفسها في الانتاج الادبي والثقافي حيث الجودة والاصالة هي المعيار؟
كل هذا الجنون السياسي والاقتصادي والحربي والثقافي والاخلاقي في العالم العربي خاصة والعالم عامة ومطلوب من الكاتب والمثقف ألا يقلق.
لا يمكن أن يحدث ذلك إلا في مكانين :
في متحف الشمع وفي حياة البلداء والمستفيدين من الكوارث.
الشاعر بدر شاكر السياب عاش ظروفا لا تحتمل،
ومع ذلك إنشغل البعض بالسياب المريض والغاضب وتناسوا ثورته الشعرية،
وآخر مقال ضاج بالسخف الرخيص والإنتهازية والمحاباة لاطراف معروفة كتبه ناقد بعنوان:
” ما الذي تبقى من السياب؟”
كما لو ان السياب ملف أغلق وليس طاقة متجددة،
إستند فيه الى مواقف شخصية للشاعر وهو يواجه أكثر من سلطة ومريض في قالب جبس كشبح أبيض متنقل في بيروت
بشهادة الشاعر الماغوط بعد أن سرق” الثوريون” نقوده وضربوه خلال مرضه في بيروت،
وبشهادة الشاعرة لميعة عباس عمارة في محاضرة في لندن تقول:
” مسؤول حزبي شيوعي كبير كان يقول لنا إذا صادفكم السياب إبصقوا عليه”
وكانت لميعة مع السياب في دار المعلمين العالية التي صارت كلية الآداب.
ماذا فعل السياب كما فعل بودلير ورامبو وفرلين وغوغان وهمنغواي وهنري ميللر؟
كان على المستوى الشخصي محتشماً ومنعزلاً وغير قواعد الكتاب وطرق التخيل والتفكير.

هذه خاصية المجتمعات المغلقة التي تعيش خارج التاريخ
وتجتر مروياتها الشفوية البائسة كلقمة البعير من الفك الايسر الى الايمن وبالعكس،
وفاتها قطار التاريخ،
ولم تعش في حياة بل في آيديولوجيات وأساطير بتعبير حنة أرندت.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here