هروب بلبل عراقي من خطابين: ما ننطيها ـــ لا ناخذها.

حمزة الحسن

لم يبق في العراق ما لم يهرب،
العملة والأحلام وطيور الأوز والبشر
بل العراق كله،
والآن جاء الدور على البلابل:
مواطن كويتي قام بتهريب نوع نادر من البلابل من مطار النجف،
بلبل يطلق عشرة الحان مختلفة بوضعه في جواريب نسائية،
ونجحت العملية التي تعد إختراقاً خطيراً للأمن القومي وإهداراً للثروة الوطنية
في بلاد الملائكة حيث لا يجوع طائر إلا والنظام مسؤول عنه، أخلاقياً،
ولا تظلم فراشة أو عنزة أو صرصلر،
إلا والمخابرات والاستخبارات والشرطة مسؤولة عنها.

ليس بلبلاً فحسب بل فرقة سيمفونية متنقلة.
ماذا يفعل هذا البلبل في هذا المأتم الكبير،
وحتى النشيد الطفولي أختفى:
” البلبل الفتان يطير في البستان
غنى على الأغصان بأعذب الالحان”؟
أية أغصان وأي أطفال وأي الحان وأي بستان؟

لا حاجة لوضع البلبل في جواريب لتهريبه،
بعران عبرت من قبل في المطارات ولا من شاف ولا من سمع،
لأن الرؤية هنا ليست بالعين ولا أدوات الكشف،
بل الرؤية بالجيب كما في كل الأشياء.
مبروك أولا وأخيرا، للبلبل، فماذا يفعل بالحانه العشرة أمام غابات البنادق
والرصاص في الافراح والاحتفالات والجنازات؟
ثم لمن يعزف في هذا الصمم العام ومن يسمع عزف بلبل،
أمام عزف الكلاشنكوف والبي كي سي ،
وأنين الأرامل والأمهات واليتامى؟

البارحة جلست، عبر شاشة، ساعات كضيف في خيمة مجلس عشائري للبحث
عن حل لجريمة قتل خمسة إخوة من عائلة واحدة،
وكان كل الحديث الطويل من الأجاويد والسادة وأولياء الدم يدور
حول ” الدية” والفصل،
في حين كان أحد الأفراد يكرر بين وقت وآخر ، صارخاً:
” وماذا عن أطفال هؤلاء والأرامل؟”
هؤلاء في العتمة ولا أحد يسمع،
فلمن يغرد البلبل؟

ومن الواضح أن البلبل كان يعرف عملية تهريبه،
فسكت عن التغريد وغلس وهو يعبر الحواجز ومكاتب المطار،
ليلحق بطيور أهوار الأوز التي وصلت البحيرات الصينية.
ذات يوم ذهبت الى نادي الخيول في غابة حيث تتدرب إبنتي،
فقادتني الى مكان دون أن أعرف السبب،
ثم دخلنا مزرعة زجاجية مغطاة واشارت الي نخلة كتب تحتها:
” نخلة عراقية”
ولاحظت ان النخلة كسرت السقف الزجاجي لأنها نمت،
ولكي تكتمل صورة الوجع نظرت الى أسطبل الخيول وقرأت:
” جواد عربي”
وجلسنا نحن الأربعة نحدق ببعضنا:
النخلة وابنتي والجواد وأنا كجلوس شخص أمام مرآة كي يرى صورته:
كلنا في منفى.

كثيرون يتصلون بنا على الخاص من كلا الجنسين
ويطلب مساعدته على الهروب قبل أن ينتحر،
كما لو أنه حي في هذا القرف لكي يموت،
كما لو أنني أعمل في التهريب وهي تهمة جديدة تضاف للقائمة من قبل فرقة الخشابة والردح للفنون الشعبية.

الغريب في الأمر ان الجميع يحاول الهروب:
السارق والمسروق، الجلاد والضحية،
لأنهم يعرفون جيداً أن هذا البلد مقيم
فوق ظهور التماسيح ولا يمكنك بناء حياة بين أنيابها.

مرة أخرى مبروك للبلبل على النجاة،
وحلّق في الفضاء الأزرق والبراري المفتوحة على الشمس والضوء والنهار،
وغرد كما تحب وتشتهي،
وخلصت من بلبلين إثنين عندنا يغردان بالتناوب في كل الفصول إهزوجة على سيمفونية: درب الصد ما رد:
واحد يفرد في الصيف:
” ما ننطيها”
والآخر يرد عليه في الشتاء:
” لا، ناخذها”،
وفلاسفة الطنين يطالبونهما بالعزف الموحد واصلاح العش المخرب،
كما يطالب السجناء تحسين الزنزانة وليس إلغاء السجن،
ويقولون لنا منذ عشرين سنة إن النظام يترنح،
لكنه يترنح ونحن نتساقط.

عقبال ــ عُقبى للغراب والحقول والانهار والغيوم والاحلام والبشر والتماثيل والقبور في مواسم هجرة جديدة ،
لكي يبقى العراق أرضاً بلا شعب،
كما توقع يوماً “بطل التحرير القومي”
في خطاب ابادة متلفز أمام جمهور صامت.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here