من سرق ساعة أم غايب؟

حمزة الحسن

محطة بغداد العالمية للقطارات في الكرخ
ذات التصميم الانكليزي،
استنساخ معماري لمحطة قطارات لندن
وتحمل محطة بغداد
في برجيها الأمامين ساعتين تشبه دقاتهما ساعة بغ بن في لندن،
ومثل كل الأشياء سرقت الساعات من محطة بغداد بعد الاحتلال،
اعلاناً رمزياً بأننا في زمن مختلف وساعة منعطف جديدة
وقبل أن تبدأ الطبقة السياسية بالسرقة.

في آذار 1988 كانت رحلتي الاخيرة من المحطة في ليل ماطر الى الجنوب،
الى الحرب وكان القطار محتشداً بالجنود المنتهية اجازاتهم،
ومن الجنون الاقتراب من هؤلاء لأنهم في غاية التوتر وقد انتزعوا من بيوتهم وأسرهم
وعالمهم الخاص الى عالم الخطوط الأمامية،
وفي تفكيرهم ان هذه قد تكون الرحلة الأخيرة وكنت مصمماً على أن تكون الرحلة الأخيرة.

من خلف نافذة القطار يظهر عراق مختلف غيره في النهار،
حيث كآبة ليل تغشى الحقول والمصابيح والشوارع والقناطر المتراجعة والنوافذ المضاءة بضوء ناعم،
ضوء المصابيح الخافت الشائع في أزمنة الحرب،
حتى التسكع الهادئ للكلاب خلال مرور القطار السريع في المدن،
يبدو مفرطاً في الوداعة بل يبدو مشهداً مسالماً في هذا الليل المرتبك،
لأن المسافر في قطار ليل ماطر الى ساحة حرب،
يرى الأشياء بطريقة مختلفة عن المسافر العادي.

كانت تجلس جواري إمرأة مسنة ما أن تحرك القطار،
حتى شرعت في البكاء ولا تتوقف عن النشيج حتى تبدأ ثانية.
ترددت طويلاً في سؤالها عن السبب وألف سبب يدعو للبكاء تلك الأيام،
وفي النهاية بعد عشرات الكيلومترات وعندما تأكد لي أن هذه المناحة لا تنتهي مع صفير القطار قررت السؤال:
” لو سمحت خالة ما الذي يبكيك؟
هل أولادك في الحرب؟”
لم تنظر إلي لكنها أجابت بنشيج أقوى:
” لا يا إبني لا ولد عندي ولا بنت،
لكني أبكي عليكم وعلى أمهاتكم وقد أكون أنا مع أمثالي ممن يسموننا: أم غايب،
محظوظات لأننا لا ننتظر ولا نتوقع”.

كانت أم غايب تنعينا وتودعنا وتبكي لأجلنا،
وكانت تستطيع أن تركن لطمأنينتها بلا مخاوف ولا قلق،
لكنها تصرفت كأم للجميع وعاشت مشاعر الأمهات وصار حشد الجنود أولادها.
هذا ليس قطاراً بل مأتم عزاء،
وهذه ليست رحلة بل هاوية.

نحن كنا جميعا أبناء أم غايب،
دون أن يكون لها ولداً،
واليوم لا أعرف أين صارت لكني أعرف شيئاً واحداً:
إن أم غايب لم تعد موجودة فوق سطح الأرض،
كما أن أم غايب، أم الجميع، هي الأخرى لم تعد موجودة واذا حدث فقد يكون نادراً،
لأن أم غايب الأولى عاشت وتربت في أزمنة الحنين والضمير الحي و أخلاق تضامن البسطاء المفرط في الطيبة والجمال الآسر العفوي،
زمن إنساني خارج زمن السلطة الوحشي،
لكنه إختفى كساعات محطة قطارات بغداد العالمية.

ذلك القطار وإن توقف في محطة قطارات المعقل في البصرة،
وتلك الساعات وإن سرقت،
لكن الرحلة لم تتوقف ولا الزمن:
فقط لا وجود لأم الجميع أم غايب وبعدها تعرضنا جميعاً لليتم.:
يتامى في وطن مسروق وفي رحلة أخرى
في قطار آخر مات السائق فجأة،
وركابه يغرقون في النوم،
ولم يبق غير الارتطام الأخير.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here