بيت العقلاء

حمزة الحسن

ـــ اذا أصاب الوهم شخصاً يسمى المجنون،
واذا أصاب جماعة يسمى عقيدة.
* روبرت بيرسون، روائي.

خلال ساعات الاحتلال لبغداد،
هرب مجانين مستشفى الشماعية والمصحات العقلية الاخرى،
لهروب الأطباء والكادر الطبي وبلا رعاية ولا طعام،
ودخل اللصوص مستشفى الرشاد وسرقوا كل شيء من الأبواب الى النوافذ ومن الاجهزة الطبية التي تستعمل في علاج الصدمات الكهربائية الى المطابخ كما صرحت الممرضة سعاد عودة الى وسائل الاعلام وقالت بألم:
” تم اغتصاب النساء”.

تمكنت المحامية لهيب التي واجهت عدي يوما بشجاعة
وسجنها في المصح من الهروب في الفوضى وهي تقول:
” أريد أشم هواءً نقياً”،
في حين تروي الشابة عائشة لطيف نزيلة المصح إن شخصاً اخذها الى منزله وهي تائهة
في الفوضى ونام معها ثلاثة ايام ثم اختفى.

أما الباقي فتفرقوا في الشوارع،
لكن ما إكتشفه المرضى كان مرعباً حقاً:
اكتشفوا ان مستشفى الأمراض العقلية والنفسية هو المكان الوحيد الآمن،
وبلا ادنى شك هو المكان الوحيد الآمن حتى اليوم والى وقت مجهول،
بل تعرضت مريضات الى الاغتصاب من” العقلاء”،
وعشن بأمان مع” المجانين” في المصح،
والكاتب السيناريست الصديق حامد المالكي وثق ذلك في فيلم وثائقي عن مستشفى الشماعية.

أبعد من ذلك قام بعض” المجانين” في تلك الفوضى والجنون العام،
وانهيار النظام والسلب والنهب،
بعد أن دهشوا من جنون “العقلاء” وانقلاب الواقع الظاهري السطحي المقنّع،
قاموا بتنظيم حركة المرور في ساحة التحرير في بغداد،
وكان أحدهم يحمل بندقية وقنابل يدوية التقطها مرمية من الشارع،
ويهدد بها سواق السيارات المكتظة في فوضى عارمة،
بالتزام النظام بالتلويح بالقنابل،
لأن كل تجربته في الحياة تقول إن النظام لا يستتب إلا بالسلاح،
ولم ير غير ذلك يوم كان” عاقلاً” حسب الوصف السطحي العام،
ويوم صار” مجنوناً” حسب الوصف نفسه.

كيف حدث ذلك؟
لحظتها كتبت مقالاً في محاولة تفسير هذه الظاهرة الغريبة،
فعلق الروائي أحمد سعداوي بالقول:
” كنت أتجول في بغداد لكني لم أر هذا المشهد،
لكني سأحاول التأكد”.
طلبت منه الاتصال بمكتب قناة العربية في بغداد،
لأن مراسلها وائل عصام هو من وثق المشاهد،
وبعد وقت قصير عاد السعداوي ليقول:
” كلامك صحيح وقد تأكدت من ذلك”.

في العام الماضي اتصلت بوائل عصام وطلبت منه الفيلم الوثائقي لعمل ما،
أكد انه فعلاً وثقها لكن يصعب الحصول عليها بين آلاف الملفات خاصة بعد كل تلك السنوات.

هذه التفاصيل قد تعبر على الانسان العادي،
لكنها في تلك اللحظة المفصلية العاصفة ، لحظة منعطف،
كان أكثر من شيء ينهار وليس النظام وحده فحسب،
وعالم آخر يولد من الانقاض وينذر بمخاطر كثيرة لأن الشيطان في التفاصيل:
حين يقوم “المجانين” باعادة النظام من جنون” العقلاء” لا شك أن خللاً في المفاهيم
قد حدث وهناك التباس في التعريفات وهناك كوارث في الطريق.

ما هو الحد الفاصل بين الجنون والعقل ومن وضع هذه المقابلة والتضاد
بينهما وما هي المعايير التي تفسر الاثنين؟
وهل ما كان يقوم به” العقلاء” يسمى عقلاً؟
كيف نسمي ذلك الانهيار العام عقلاً؟
وهو للتذكير تضخم اليوم وصار يحمل عناوين مختلفة كالعقيدة ومنظمات وأحزاباً ومؤسسات
بل صار سلطة؟
يوم أخرجوا الشاعر الفرنسي جيرار دي نرفال من المصح العقلي،
صرخ بهم:
” أعيدوني الى بيت العقلاء”.
أي الى المصح.
جيرار رغم أزمته العميقة يعرف أين يكون الجنون الحقيقي
ليس في المصح بل في المجتمع:
قد يكون جيرار كشاعر مبدع استثناءً،
لأنه لا أبداع دون أن يمر الشاعر والفنان بتجربة الوجع والجنون الابداعي،
وتاريخ الثقافة يثبت ذلك.

البنية الأصلية للواقع لم تتغير حتى اليوم عكس ما يرى البعض والمتغير ليس القاع العميقة، ال>هنية والعقلية،
بل المتغير سطح الواقع والعناوين والشعارات والأشكال والمظاهر،
ومن هنا الوهم الشائع لدى البعض في أنهم يرون الواقع أمامهم مع أن الواقع الحقيقي مخفي في تاريخ وتراث وتقاليد وطقوس وعقائد وأحزاب ومصالح
خارجية ودهاليز ومكاتب مخابرات وجيوش وشركات ومافيات ودول والخ،
وبما أن البنية أو النواة الأصلية العميقة للواقع الخفي لم تتغير،
فسيظل ينتج الظواهر والعاهات نفسها بعد أن يبدل قشورها لكي تظهر بشكل مموه على انها جديدة وهذه من ألاعيب الواقع وحيله
لأن الواقع كائن حي له مراحل ولادة ونمو وفتوة وشيخوخة وموت،
وبلا قطيعة فكرية ومعرفية معه سيبقى منتجاً للويلات.

لو تفحصنا المصحات العقلية في العراق اليوم لوجدنا أشخاصاً مرضى لطفاء حساسين وطيبين
في حين نجد، خارج المصحات وفي الواقع،
معتوهين ومخبولين صاروا قادة وزعماء ومصلحين متمترسين ووعاظاً
خلف مبادئ وعقائد صلبة ومؤسسات ،
لأن الفوارق تضيع في زمن انقلاب المعايير بين البطل والخبل وبين العاقل والمعتوه
وبين الحقيقة والخيال وبين العاشق والنصاب والخ.

كان الكاتب خضير ميري أحد نزلاء مستشفى الرشاد الشماعية بعد أن أخترع الجنون تلك الايام خلال الغزو،
للهروب من الحرب وكتب تجربته في كتابه:” أيام العسل والجنون: الحرب على مستشفى المجانين” الذي تعرض للقصف الأمريكي القريب مما أثار دهشة وخوف المجانين من جنون ” العقلاء” المشرعن،
وتوفى عام 2015 في بغداد من المرض والوحدة والاهمال،
ومع الأسف إن الجنون ليس خياراً عقلياً لأنه منقذ من التفاهة .

الحضارة من صنع فلاسفة ومفكرين وأدباء “مجانين” كما يقال اليوم في أوروبا،
ومن حاول ويحاول تدميرها هم” العقلاء” الزعماء والقادة الدينيون المتعصبون والرأسماليون
وأصحاب شركات السلاح والصناعة الذين يهددون كل يوم بابادة الجنس البشري،
لكنه Masked Madness الجنون المقنّع.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here

By continuing to use the site, you agree to the use of cookies. more information

The cookie settings on this website are set to "allow cookies" to give you the best browsing experience possible. If you continue to use this website without changing your cookie settings or you click "Accept" below then you are consenting to this.

Close