حول لغز الحياة وسر الوجود، ح3 (الحلقة الاخيرة)

حول لغز الحياة وسر الوجود، ح3 (الحلقة الاخيرة) * د. رضا العطار

يفيض كتاب الفيلسوف الفرنسي برجسون بالنظريات التي ان لم تقنعك, فهي تلقيك في حيرة وتحثك على التفكير وتجعلك تراجع نفسك وآرائك.

ولكن هل للحياة اغراضا تسير نحوها وتحاول ان تصوغ المادة في القوالب التي تبلغها هذه الاغراض ام هي تيار آلي ليس لها غرض , تسير في العالم كما يسير الماء على الارض , فهذا حجر يعوقه وهذا عائق يغير اتجاهه وهذه وهدة ينحط اليها وهلمّ جرّا ؟

كلا . انما الحياة – في رأي برجسون – ترمي الى هدف وتتجه نحو قصد, وهي لا تكف عن الاختراع لكي تبلغ هذا القصد. ولنضرب لذلك بعض المثل.

1 – فهذا العقل الانساني يعرفه كلنا انه كامن في الجهاز العصبي الذي يحتوي على الدماغ. وهذه الاعصاب تسيطر على اجسامنا, وهي وسيلة التفكير. فالجهاز العصبي من حيث التطور ومن حيث محاولة الحياة للتسلط على المادة , ومن حيث ان الذهن هو غرض من اغراض الحياة. ولذلك فان الحياة تحافظ على هذا الجهاز ابلغ محافظة وتحوطه بأكبر ضرب من العناية. فإن الحيوان اذا قطع عنه الطعام , فإنه يأكل نفسه, فتضمر جميع اعضائه ويهزل. فالكبد ينزل وزنه الى الثلث والعضلات تنزل الى خمس ما كانت عليه. الاّ الاعصاب فأنها تبقى كاملة لا تمس بضرر ولا تنقص بالوزن حتى الموت. فكأن مادة الجسم كلها مسخرة لخدمة الجهاز العصبي, وكأنه لا معنى لوجودها الاّ لهذه الخدمة, تضحي بنفسها لأجل الأعصاب.

2 – ان الحياة تهدف الى غاية جمالية قد تكون نافعة للحيوان, ولكن ليس بها ادنى منفعة للنبات. نعني بها اتساق الجسم وتوازنه بحيث يمينه يقابل يساره. وقد سارت نحو هذه الغاية في النخيل مثلا في مجال الاتساق والتوازن شوطا بعيدا , مع اننا لا نرى الفائدة للنخيل في ذلك. ولكننا لا يمكن ان ندرك ان فكرة الاتساق والتوازن في النخيل موجودة قديمة في معين الحياة الاصلي. وانها اي الحياة تسير نحوه في النبات مثلما تسير في الحيوان, مهما اختلفت البيئة التي ينشأ فيها النبات او الحيوان . ومعنى ذلك ان الحياة ليست شيئا آليا كالماء يسيل و يستقيم او ينحرف طبقا لظروف المكان والزمان , بل هي لها غاية رمت اليها في الحيوان والنبات وحققتها.

3 – نعرف ان الحياة قسمت اجسام الحيوان الى ذكر وانثى . وهذا بالطبع اختراع مفيد للحيوانات . ولكنها سارت هذه السيرة نفسها في النبات مع عدم فائدة ذلك للنبات . ونحن انفسنا نثبت عدم الفائدة بأننا لا نزرع مثلا بزر العنب او بزر الموز وانما نعمد الى الغصون او الفسائل فنزرعها. ومعنى هذا ان الحياة رمت الى غرض وهو تقسيم الحي الى ذكر وانثى وابتدأت بذلك في الحيوان ثم عادت فحققته في النبات مع عدم فائدته له .

فهذه امثلة ثلاثة تثبت ان الحياة ترمي الى غرض وتسير نحو غاية . فهي تعني اكبر العناية بالذهن الانساني في محاولة لها لتحريره من المادة . ولعلها تستطيع يوما ما ان تسيطر على المادة سيطرة تامة حتى تصوغها كما تشاء وتخلق منها ما تشاء . ثم هي ترمي الى هيئة الاتساق والتوازن . وقد حققت هذه الهيئة في الحيوان منذ زمن بعيد جدا. وعادت فحققته في احدث النباتات وهي النخيل .

ثم ازدواج الجنسين غاية اخرى حققتها الحياة في الحيوان . ثم عادت فحققتها في النبات بلا ادنى فائدة للنبات من ذلك. فالحياة اذن ليست آلية , يتسلط عليها الوسط كما يتسلط سطح اليابسة على الماء الذي يسيل عليه , بل هي عنصر مدرك يرمي الى غرض ويسير نحوه . والمادة تعوقه في سيره , ولكنه يتخطى العوائق او يزوغ منها حتى يبلغ غايته.

فبرجسون يعتقد ان النظر الصوفي دون النظر العلمي جدير بأدراك ماهية الحياة، اي سر الكون او الله نفسه. والنظر الصوفي يعتمد على البصيرة دون النظر العلمي الذي يعتمد على الذهن . ثم هو يعتقد ان البصيرة كامنة في الانسان يمكن استنباطها من النفس بالرياضة كما يفعل الصوفيون . وهو يعتقد كذلك ان البصيرة اجدر من الذهن في ادراك لغز الكون لانها تنبع من الغريزة , والغريزة الصق بالحياة من العقل — نبع الذهن .

أما الشطر الثاني من فلسفة برجسون هو ان الحياة خالقة وانها ترمي الى غاية تحاول ان تحققها وان تتغلب على عوائق المادة في تحقيقها . والشطر الثاني هذا لا يمكن مناقشته مع برجسون . فان الحياة عنده لا تخبط انما ترمي الى غاية. وهذه الغاية مما يبدو من استقراء التطور غير مضمرة اضمار التعيين والتحديد. وانما هي متكيفة فيها وفق الظروف, لاننا لو فرضنا ان هذه الغاية محدودة معينة, لما كانت الحياة حرة. ولكن استقراء التطور يدل على هذه الحرية.

اما الشطر الاول وهو ان الذهن في حاله الحاضر قاصرا عن ادراك كنه الحياة, هذا صحيح لا غبار عليه. ولكن القول باننا لن نفهم الحياة الا بالبصيرة, فهذا يحتاج الى اختبار شخصي. مثله مثل الارواح. اذا لم يختبره الانسان بنفسه لم يصدقه. ولكن الا يمكن ان يكون قصور الذهن ادراك كنه الحياة راجعا الى انه لم يتطور التطور الكافي ؟ وانه اذا نشأ لنا في المستقبل حاسة سادسة او سابعة فرضا سنكون قادرين على ان ندرك اشياء تربك اذهاننا الان . مثل معنى الازل او معنى الابدية. و البعد الرابع عند آنشتاين ونحو ذلك ؟

ثم الا ترى ان عناية الحياة باعصابنا دليل على انها ترمي من جهازنا العصبي بما فيه دماغنا الى هذه الغاية وعندئذ تكشف لنا الحياة سرها ؟ واذا كان الامر كذلك فالذهن يمكنه في المستقبل ان يقوم مقام البصيرة البرجسونية.

لست اشك ايضا في اننا سنهتدي مستقبلا في مجال الفلسفة او الأدب او حتى في مجال الدين الى ما يشبه – تضخيم – العقل , كي يغدو اقرب ما تكون – بصيرة – ولكن ما ادلنا على هذه – البصيرة – التي هي ثمرة الذهن، فقد اندست الى العقل الباطن حتى ضاعت منها العلل والاسباب ثم بدت لنا كانها وحي والهام ؟

اعتقد ان الفيلسوف الفرنسي قد اربكنا في نظرياته لكنه لم يقلقنا.

* فن الحب والحياة للعلامة سلامه موسى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here