قراءة سيكولوجية ـ سياسية لبطولة “خليجي 25” لكرة القدم

د.عامر صالح

أنتهت دورة بطولة كأس الخليج العربي ” خليجي 25 ” لكرة القدم والتي أقيمت في مدينة البصرة العراقية في الفترة الممتدة من 9 ـ 19 كانون الثاني/يناير2023, وقد انتهت بفوز الفريق العراقي ببطولة الكأس, وهي المرة الرابعة التي يفوز بها العراق بعد ثلاث مرات سبقتها في السنوات: 1979, 1984 و 1988. وتتفق اغلب القراءات أن بطولة “خليجي 25″ تم انجازها بنجاح من حيث الأعداد لها لوجستيا وفنيا وجماهيريا.

ساهم ” خليجي 25 ” في بعث شحنة الأمل لدى الشعب العراقي وشعوب دول الخليج في التفيس المؤقت من الأحتقانات الأقليمية والتي انتجتها دائرة الصراع الأقليمي وبشكل خاص الصراع ألأيراني ـ الخليجي, ذلك الصراع الطائفي ـ السياسي المزمن والقائم على خلفية نهج ايران في تصدير ” الثورة الأسلامية ” الى دول الجوار والى العالم وهو نهج يستند في مبادئه الأساسية الى اشارات واضحة في دستور ” الجمهورية الأسلامية الأيرانية “. وقد وقع العراق ضحية هذا النهج قبل الدول الخليجية بسبب من وجود بيئة سياسية حاضنة له.

فالعراق عانى لأكثر من اربعة عقود من الحروب والخراب الشامل والعزلة الدولية جراء سياسات النظام السابق المتهورة والهوجاء. تبعتها سياسات لاحقة ما بعد سقوط النظام في عام 2003 بفعل عوامل الأحتلال الأمريكي وتداعياته الخطيرة على المجتمع العراقي, وبفعل سلوكيات التمترس الطائفي السياسي والشوفينية العرقية والأثنية, والتي كرست الجهل والتخلف والفقر واهدار طاقات العراق البشرية وموارده الأقتصادية وسرقة عائداته النفطية لعقدين من الزمن وتشويه بنيته التحتية ألأقتصادية والأجتماعية بكل ابعادها, وقد ابعدت العراق عن فرص الأستقرار والنمو والتقدم والأزدهار.

كانت ردود فعل الشعب العراقي ليست ببساطة كما يراها البعض هي فقط في تشجيع فريقه لكرة القدم وتمنيات بالفوز, بل تكمن الأسباب الرئيسية في ردة فعل الشعب على القهر والتعسف والظلم الذي تجاوز حدود اللامعقول على الرغم من امتلاك العراق كل عوامل النهضة والأنطلاقة, البشرية منها والمادية. ولا يمكن فهم تلك الفعالية الى جانب بعدها الترويحي بالطبع , خارج اطار سيكولوجية التعويض الناتج من الأحباط المزمن, حيث البحث عن الأمل والفرح والسعادة في أي مناسبة.

واذا كان الأمر مفهوما لنا من جانب السلطات العراقية والحكومات المتعاقبة في محاولاتها للبحث عن انجاز شعبي يفك طوق العزلة الشعبية الناتج من الفشل في مجمل سياساتها عبر عقدين من الزمن, فأنه من جانب الشعب كان يجسد بوضوح ذلك الميكانزم العقلي والسلوكي الذي تختلط فيه دموع الفرح والحزن وهو يبحث عن فرص مباشرة وغير مباشرة, مؤقتة ومستديمة للخلاص من الظلم وانعدام العدالة الأجتماعية وسوء الأحوال العامة.

أما من جهة دول الخليج الأخرى وشعوبها وجمهورها المشجع ” لخليجي 25 ” فرغم ما تمتلكه من بحبوحة في العيش ومستويات من الرفاه الأقتصادي وما تمتلكه من بنى تحتية نامية بأطراد تستند الى مفاهيم التنمية المستدامة وتعتمد في جوهرها على تنويع مصادر الدخل القومي وعدم اعتمادها على النفط كمصدر وحيد في نهضتها الأقتصادية والأجتماعية, إلا أن هواجسها ومخاوفها من عدم الأستقرار الأمني الأقليمي والداخلي يشكل لديها وجعا يوميا, وقد لاحظنا ذلك في العديد من الهجومات الصاروخية المتكررة على بعض من دول الخليج الى جانب الأنشطة المزعزعة لها والقادرة على بعث عدم الأستقرار اليومي وتهديد بنائاتها الداخلية وأمنها المجتمعي.

وهنا نرى حجم زخم الحضور الشعبي الخليجي والعراقي والذي بلغ عدده بحدود 650 ألف, حيث شكل الطرف الخليجي فيه اكثر من 70 ألف, فألى جانب بعده الفني والرياضي, يشكل في ثقله محاولة غير مسبوقة لأحتواء الحدث الرياضي سياسا على شكل رسائل ضمنية من قبل الجمهور العراقي والخليجي عبر استمالة العراق الى الجانب الخليجي في خضم الصراع الأقليمي الدائر مع ايران, وحيث العراق متهما في العديد من قواه السياسية في الوقوف مع ايران وتنفيذ اجندتها الأقليمية, فقد اطلق البعض على تلك الأستمالة بعودة العراق الى حضنه العربي ولكن نعتقد ان عودة الأحضان الى بعضها هو الأصح. وللأمانة الموضوعية نقول ان بعض من دول الخليج العربي ساهمت في عدم استقرار العراق في فترات سابقة عبر دعمها للمنظمات الأرهابية مثل القاعدة وداعش ولعب خطاب بعض من مؤسساتها الطائفية التكفيري دورا كبيرا في عدم استقرار العراق, بل وساهمت في انتكاسة ” الربيع العربي ” وحرف مخرجاته الطبيعية صوب الخلاص من الأستبداد وحل أزمة الحكم في البلاد العربية.

ولكن يبدوا ان القناعة بأن الارهاب يستهدف امن الجميع وان المصالحة على اسس المصالح والعيش المشترك بسلام بدأت تأخذ حيزا كبيرا في رسم سياسات دول الخليج. وقد جسدت الجماهير الخليجية والعراقية صور جميلة ورائعة من سلوكيات التواصل الأجتماعي والروحي والأحترام المتبادل عكسته انماط من السلوك الحضاري في استقبال الضيوف في كل امكنة البصرة وممارسة طقوس تعكس العمق التاريخي والثقافي لشعوب المنطقة, وقد انعكس ذلك ايضا بدوره في اشكال سلوكيات التشجيع للفرق المتنافسة, والتي اتسمت بالحماس المفعم بالهدوء النسبي خلاف للمتعارف علية عند جمهور فرق كرة القدم.

كان احتجاج أيران الرسمي لدى العراق على تسمية ” الخليج العربي ” بدلا من ” الخليج الفارسي ” لمسمى مبارات دول الخليج العربي هو تعبير واضح ليست فقط اعتراض على التسمية وانما كان توقيتها هو رسالة امتعاض وغضب من الجانب الايراني وخوف دفين من الأقتراب الرسمي والشعبي لدول الخليج مع العراق, وايران تدرك على مستوى تهديد مصالحها ولذلك افتعلت تلك المشكلة” التي هي ليست موضوع خلاف جديد ” كمقدمات لخلق مشاكل اكبر وعرقلة المسار الايجابي لعلاقة العراق بدول الخليج, والعراق يمربظروف صعبة يبجث فيها عن بدائل لتعزيز عمليات الاستقلال الداخلي في مختلف المجالات, والأقتصادية والسياسية في مقدمتها. وقد استجاب قادة الأسلام السياسي الشيعي في الامتناع عن ذكر مسمى الخليج العربي حتى في التهاني التي قدمت للفريق العراقي واكتفيت بمسمى ” خليجي 25 ” بل البعض منهم امتنع حتى عن تسمية خليجي 25 واكتفى برسائل تهنئة خجولة للفريق العراقي والفرق المشاركة, بل دفع بعضهم التطرف والمحاباة لأيران في البحث عن مسمى ” الخليج الأسلامي “. ولا يمكن الأستغراب من مواقف الأسلام السياسي الحاكم في العراق وفي بلد يشكل فيه حجم التجارة الخارجية مع ايران اكثر من 12 مليار دولار في معظمها لكفة الجانب الأيراني في مجال الكهرباء والصناعات والمنتوجات الزراعية الأخرى, الى جانب تهريب العملة الصعبة لها, وفي بلد كالعراق يتدخل فيه الطرف الأيراني في تشكيل الحكومات المتعاقبة بما يخدم اجندتها ومزاجها الطائفي وضمان مصالحها في ارتهان العراق كحديقة خلفية لأيران لتصفية صراعاتها الأقليمية والدولية وفي مقدمتها الصراع الأيراني ـ الأمريكي.

خضعت الرياضة وبشكل خاص كرة القدم وعلى الأخص جمهورها المشجع الى الكثير من البحث السيكولوجي على خلفية ما يقع من احداث عنف وضحايا بشرية اثناء المباراة وبعدها واعتبرت تلك الحشود ينطبق عليها ما قاله غوستاف لوبون ( 1841 ـ 1931 ) في كتابه” سيكولوجيا الجماهير ” وهي ان الفرد عندما ينصهر في الحشد يفقد الكثير من مزايا التفرد والذكاء والأبداع وبالتالي يكون مستعدا لأرتكاب الكثير من الأفعال التي تهدد المجتمع وسط بقائه مع الحشد او الجموع. وقد كان للكاتب والروائي والشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس ( 1899 ـ 1988 ) من بلد ” ميسي ومارادونا ” فقد وصف كرة القدم بأنها لعبة غبية جماليا ووصف جمهورها بالتعصب والأنحياز الأعمى وقال عنها انها اكبر جرائم الأنكليز, وقال ان جمهورها شبيه بالجمهور الذى أتى بأعتى الدكتاتوريات الى السلطة وغيرها من النعوت السلبية بحق جمهور كرة القدم, وقد رافقت آرائه انذاك الكثير من ضحايا كرة القدم في مختلف الملاعب.

وقد يغير بورخيس الكثير من آرائه لو كان حيا اليوم, بعد ان تحولت كرة القدم والرياضة عموما الى مشاريع اقتصادية واجتماعية وثقافية ضخمة الى جانب كونها من الأستثمارات الكبيرة في حاضرنا اليوم وخاصة عندما خضعت اللعبة على الدوام الى المزيد من التخطيط وتكريس أمن الجمهور فيها ولكن هذا لا يمنع من وقوع ضحايا بين وقت وآخر. وقد تحولت الرياضة وكرة القدم في مقدمتها, الى جزء لا يتجزأ من القوى الناعمة على الصعيد العالمي, الى جانب عناصر القوى الناعمة الأخرى من سياحة وثقافة وفندقة وآ ثار وتلعب دورا في تصدير القيم والاتجاهات الأيجابية وانتشارها بين الشعوب والمساهمة الفعالة في انجاز السياسات الخارجية بعيدا عن استخدام القوى الصلبة ” القوى العسكرية ” وتوسيع دائرة التفاعل بين عادات وتقاليد الشعوب وايصال رسائل المودة والسلام على الصعيد العالمي.

وقد انفقت دول العالم الملايين والمليارات من الدولارات على قطاع الرياضة وخاصة كرة القدم ليست فقط من اجل الترفيه بل ان الأستثمار المتبادل اخذ حصته الكبرى في هذا الأنفاق, وعلى سبيل المثال ووفقا لوكالة “بي بي سي عربي” “فقد انفقت دولة قطر ما يقارب 220 مليار دولار لأستضافة كأس موندال 2022 , وهو ما يعادل 60 ضعف الميزانية التي انفقتها جنوب افريقيا على كأس العالم 2010 وقد يعادل ايضا ما انفق على 21 بطولة سابقة. وقد انفقت هذه الأموال من جانب قطر انشاء بنية تحتية, مثل شبكة جديدة للمترو في الدوحة, ومطار دولي, وطرق جديدة, فضلا عن بناء نحو 100 فندق ومرافق ترفيهية”. والأمر الذي يجب الأشارة أليه ان هذا الأنفاق الهائل من قبل قطر وبعيدا عن ماذا ارادت قطر ان تسوق في هذه المناسبة للعالم, وهل تستفيد قطر لاحقا من هذه البنية التحتية, أنها نجحت نجاحا كبيرا في التخطيط والأعداد وانجاز هذه المناسبة وهي رسالة مهمة جدا لدولة صغيرة كقطر. ويجب الأشارة هنا ان هناك تناغم او تكامل ما بين الشعب القطري المترف ذو المستويات العالية في الدخل والخدمات العامة كالصحة والتعليم والأمن المجتمعي وفي النزاهة ومحاربة الفساد” وفقا للتقارير الدولية “, اي هناك اسناد شعبي كبير لهذا المنجز على خلفية نوعية ونمط الحياة السائد والمستوى المرتفع من اشباع الحاجات الأنسانية.

اما بالنسبة للحالة العراقية فقد خصصت الحكومة العراقية لبطولة خليجي 25 ما يقارب 33 مليون دولار انفقت حسب ما يذكر لبناء عدة فنادق وعددها اربعة, وكذلك لأغراض الأستعدادات البرية والجوية, ونشر عدد من شبكات الأتصال على شكل ابراج متنقلة وغيرها من مستلزمات نجاح خليجي 25 . في الحالة العراقية فأن الجمهور العراقي الذي بلغ الأكثر من 500 ألف متفرج هو جمهور غاضب ومحتج على السلطات الحاكمة ودفع في مناسبات عديدة في حركاته الأحتجاجية المئات من الشهداء والجرحى والمعاقين والمغيبين على خلفية الفساد الاداري والمالي وسرقة اموال العراق وازمات البطالة والفقر وانعدام الخمات العامة وتدهور العملة العراقية مقابل الدولار, فأذا اردنا نجاحا مستديما لفعالياتنا الرياضية والترفية ان تستمر ولا تنتهي بعد ايام من نهاية الاحتفالات وان تكون ذات اثر فعال على المستوى الأقليمي والدولي فيجب ان نرفدها بعوامل الاستقرار والنهوض في الجبهة الداحلية, وابرز تلك العوامل: محاربة الفساد المالي والاداري واسترجاع اموال العراق المنهوبة والحديث صراحة عن من يقف ورائها, نزع سلاح المليشيات المنفلته واقصاء الاحزاب السياسية ذات الأذرع المسلحة من العملية السياسية لأنها تشكل خطرا على الديمقراطية, الشروع الجدي ببناء اقتصاد متنوع وليست وحيد الجانب ويعتمد على النفط فقط, فأن كل افراحنا وفعالياتنا ستكون في مهب الريح عندما لا تتوفر لها عوامل ديمومتها. ونحن نرى الآن بأم اعيننا بعد انجاز فعالية خليجي 25 أن الجماهير نفسها التي كانت تشجع في الملاعب عادت الى ساحات الأحتجاج وهي تناضل من اجل لقمة عيش كريم.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here