روح ظمأى

بقلم: عامر ممدوح
كاتب وأكاديمي

كانت الشمس تتوسط السماء، فتزيد من بهائها، والقاع يبتسم لها في لغة ليست أرضية.. فيفيض الكون بالخيرات!

لكنه وسط ذلك كان يشعر بالظمأ.. بالإنهاك!

وكأن عيناه لا ترى إلا عكس ما هو موجود.. فالنور يراه ظلام، والبهجة انقباض، والراحة شقاء!!

يطالع يمنة ويسرة، فلا يجد الا ضجيج الآلات يصك مسامعه، وتكاد تخنقه الشوارع والمنازل، بل والروايات والحكايات التي تخاطب غايات الجسد الدنيوية وتنسلخ به عن عالم الروح والشعور!

كان ذلك يزيد همه، ويُشعره بالمزيد من الحاجة الى الارتواء!

هذه الروح الظمأى إلى اليقين، والمشتاقة إلى النقاء، تختصر حكاية الاحتياج الروحي الراهن.

هذا الاحتياج الذي لم يعد مخفياً، إزاء الضغط الذي تمارسه الحياة المعاصرة على الانسان، في ظل زحمة الأشياء، واشتداد معركة لقمة العيش، وتخمة العلوم والمعارف وسهولتها، ولغة التكنولوجيا الصمّاء، حتى يكاد المرء يشعر وهو يضع رأسه على وسادته أنه بحاجة للخلاص من كل ضجيج وطوفان حياته كي ينام!.

لقد منحتنا الحياة الراهنة التطور المادي، والتقدم التقني، نعم، ولكنها كانت صفقة ماكرة تمت في خلسة لم تتح للإنسان الاطلاع على كافة شروط العقد، فمنحته السهولة مقابل راحة البال، والمغريات مقابل انعدام السكون، والمعرفة الكبيرة قبالة الخواء، وانتعاش الجسد ازاء ظمأ الروح!

والحياة مهما كان شكلها، ولونها، وموقعها، وهويتها، تبقى هي الحياة، ولا بد من توازن روحها وجسدها كي تحقق معناها وغايتها، فمن يجد الحياة قاتمة وهو وسط ذروة التقدم، ومن يلمس بؤسها وهو في أرض الشقاء.. سواء!

ذلك ان كل تجربة عجزت عن ذلك التوازن بين الجسد والروح لم تزد البشرية الا ألماً مضافاً مضاعفاً! وكان النتاج هو (الشقاء).

ولعل ذلك هو سبب انتشار وذيوع الخطاب الهادف إلى تنقية الروح والارتقاء بها وملامسة حاجتها، وتحقيق التكامل المنشود لتعيش الحياة سعادتها الحقيقية، فحين تشعر النفس بالسكينة والطمأنينة تكون قد وصلت إلى مرتبة الرضا وذلك جوهر السعادة المنشودة.

وهو معنى وصف حضارتنا المسلمة بأنها حضارة إيمانية في جوهرها، متوازنة في مضمونها، مرنة في تعاملها مع الآخر، إنسانية في رسالتها، فالتكامل والشمولية هما أساس نجاح كل عمل، ومبعث البهجة لكل سبيل، مما يجب ان يبقى الهدف الأسمى أمام الجميع للوصول إليه.

ومخطئ من يظن أن الامعان في ذلك نكوص على الواقع، أبداً، بل هو الانصهار التام بين مطالب الروح والمادة، وهو خيار أصيل يقوّي جذر المرء في أعماق الأرض، ويمنح فروعه الحياة.

فالسعي في الأرض أصله اعمارها، وغايته العبادة بمفهومها الشامل، فالإعمار يمتد ليشمل بناء النفوس، والعبادة تتجسد بكل فعل خيّرٍ يزيد من النماء.

وبين كل تلك المعاني، يزدهر قلب الإنسان ويشرق من جديد، فتلقى الشمس الساطعة نورها في فؤاده، وبالخيرات التي تتلقاها الأرض تزدهر حياته، وتفيض روحه ختاماً بالرضا والاحسان.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here