كيف سرقت الجنازة وتركت صاحبك القتيل؟

حمزة الحسن

ـــــ الى المتماوت عريان السيد خلف.
ربما الخاتم الفضي نفسه،
ما تغير سوى السجائر والرماد،
الوجه نفسه،
النظرة الحائرة والحاجب الثقيل الطويل،
كليل العراق الثقيل الطويل،
متى ينتهي هذا الثقيل الطويل؟
من أين نبدأ؟
من تاريخ الجنازة؟ أم من وحشة السجن؟
أم من محنة ظعن شت عن هله؟
يموت الكثيرون كل يوم ويذهبون الى المقبرة،
لم يرجع لنا ميت من الدفن عدا المشيعين،
لكنك الأمس تركت الجنازة وحدك،
دفنت المشيعين،
وعدت تضحك بالخاتم الفضي نفسه،
لم يغير الموت فيك غير
رماد السيجارة،
متى ينتهي رماد السيجارة؟
عريان مقبوضا عليه منتصف الليل ببدلة الاورزدباك الموحدة.
كصقر في فخ معصوب العيون مثلنا جميعا في عام 1979 ونرفع العصائب ما أن تغلق الباب.
توا نزلت من الجبال سبع سنوات في حرب الجبال الى السجن ثم من السجن الى حرب الثماني سنوات في الجنوب في صحراء البصرة تحت حرارة 50 تحت نيران القنابل وجحيم الملاجئ وجنون المحاربين ثم الى المنفى
وصار التاريخ اليوم رواية قصه خون.
كان قدري أن التقيك في الليل في السجن ثم من السجن الى حرب الثماني سنوات في الجنوب.
الزنازين ضاجة بالصراخ
في المسلخ البشري:
هنا كفاح محمد مهدي الجواهري يتكئ على الحائط،
هناك في الزاوية البروفسور صفاء الحافظ يروي
للأطباء والمحامين والطلبة وأصحاب
الفنادق عن مجلس السلم العالمي،
كان عضواً فيه،
كان عضواً في اللجنة العليا لمحو الأمية،
وقد علم السجّان القراءة والكتابة.
ويردد باسماً:
“خلف جدران الزنزانة حديقة”.
هل صحيح خلف جدران الزنزانة حديقة؟
لم تكشف الأيام ذلك،
لكنها ضحكة الأسد الجريح المحاصر بالضباع،
أُطلق سراحه لكنه خُطف في شارع الرشيد،
وأُعدم.
انتهت سجائر سمير الحلوائي نداف في شارع الصناعة،
وشقيق جاسم الحلوائي عضو ل م،
كان علينا هو وأنا غسل المراحيض كل يوم
ومسحها بقمصاننا. همس لي سمير يوما قائلا ” فاطمة المحسن في زنازين النساء ومضربة عن الطعام” لا أعرف طريقة التقاط الاخبار في هذا الجحيم
وهو ما ثبتته المحسن في سيرتها الاخيرة” الرحلة الناقصة”.
لم نكن جميعاً شيوعيين ولست عضوا في حزب لانني اعمل حتى اليوم في الثقافة والسياسة في القطاع الخاص لحسابي.
نحن ثلاثة أشخاص قُبض علينا في ساعة في مناطق متفرقة في العاصمة وهم أحياء حتى اليوم حين انهار شيوعي وباعنا للامن وخرج سالماً والتاريخ قصة مزورة في الماضي والحاضر . التهمة توفير مخابئ للشيوعيين في ضاحية الفضيلية وهي عصية على النظام حتى اليوم والتهمة صحيحة .
كان بعضنا يحلم بالكتابة وبيت سعيد،
وآخر قادم من ردهة العمليات:
الدكتور الجراح حسان عاكف حمودي
ببدلة العمليات لأنه عالج شيوعياً
وأخرج الرصاصة من جسده،
كان عليه أن يخوض معركتين في يوم واحد:
معركة انقاذ جريح ومعركة السجن.
طبيب جراح بثياب بيضاء في السجن بتهمة
عملية جراحية ناجحة لانقاذ جريح؟
مشهد سريالي لا يحدث إلا في حكاية.
آخرون أصحاب فنادق،
البعض كان ندافاً: سمير الحلوائي في شارع الخمسين قرب
الجامعة التكنولوجية،
الدكتور صباح الدرة سكرتير اتحاد الشبيبة العالمي،
أُعدم.
الدكتور زيد عبد الصمد نعمان وثق حوارات الزنزانة في سلسلة مقالات ،
والده طبيب العمال الفقراء ونزيل نقرة السلمان،
أحد قادة وثبة كانون في الاربعينات،
أحد ركاب” قطار الموت”.
هل هذا العراق في غرفة ضيقة؟
كيف انتهينا الى هذه المجزرة؟
كيف طار الآخرون الى المنافي،
نحن وحدنا وقعنا في المصيدة؟
لماذا نحن وحدنا وقعنا في المصيدة؟
كنت أنت، عريان، النزيل الأخير،
ماذا يفعل الشاعر في وحشة السجن؟
ماذا ينفع غناء الكناري في قبضة
الوحش؟
ماذا يجدي لو رهنت عمرك نذرْ للحامل
بشارة؟
لم يأت ولن يأتي.
وماذا تنفع جروحك الما لهن جارة؟
كيف صدقت أن الجرح يبني على مسماره؟
على من تلقي اللوم؟
كيف أقنعت نفسك إن الما يخاف
اللوم يرضى بذلته وعاره؟
هناك من يخاف اللّوم،
وينام على ذلته وعاره.
هناك الرمادي، يا سارق التابوت،
ولا حدود قاطعةً في المواقف.
كيف صدّقت المبشّر في أن الطائر
المقصوص جنحه يطلع جناحه؟
ليس كل من قُص جنحه،
يطلع جناحه.
من أوهمك أن كل من جليته وغسلته،
يطيح زنجاره؟
ليس كل من جليته،
يطيح زنجاره.
من قال إنك أول من يزرع شلب،
ويحصد البردي؟
أنا أيضاً زرعت الورد،
لكن خضّر جرح ينزف ويدّي.
هل رأيت شخصاً يتعكز على جرحه
وما يطيح وما يصيح؟
هل رأيت ظلاً ينزف في الليل على حائط
ورجلاً صامتاً في السرير؟
الرجال تبكي بصمت الأسود الجريجة في الليل
تحت المطر في الغابات.
هذا طبع الذئب من ينجرح،
يلحس جروحه بمغارة وينعزل
وما يشوفه الطير،
جروحه ضوه بليل المغارة،
ينزف على الريح روحه وينطفي
مثل النيازك في البراري بلا وداع،
ولا مناديل،
ومن يجيه الموت يعض على تراب المغارة،
ومن تصل روحه الوريده،
ينام على جرحه وما يصيح،
غن، خوية عريان، غن.
لو فاض الحنين اليوم،
سأُغني:
” أريد أبكي على صدرك،
مشتهي النوح”.
أنا مشتهي النوح.
ليس عيباً أن أشتهي النوح.
أعض بأسناني على تبليط الشوارع،
مشتهي النوح،
ومشتهي البوح.
كنتَ طفلاً في وحشة السجن في الليل،
لا تملك غير خاتمك الفضي،
وعلبة سجائر نجت من التفتيش،
نوع سومر الذهبي الرشيق
الطويل الأنيق في علبة زرقاء.
يوم انتهت سجائرك صادف
يوم تأميم النفط الأول من حزيران 1979.
كان السجانون كرماء معنا ذلك اليوم،
حين وزعوا سيجارة واحدة على كل مدخن،
علّق صفاء الحافظ ضاحكاً بعد غلق الباب:
” سيجارة واحدة حصتنا من النفط،
واضرابات عمال شركة النفط في كاورباغي،
من انتفاضة الجسر وأعواد المشانق،
من معتقلات الملكية والجمهوريات القاتلة،
من انقلابات الضباط الخونة،
هذه حصتنا من العراق”.
ما تزال حصتنا، عريان، لم تتغير،
سيجارة وقبر ومنفى.
هم ، انت تعرف من هم، رفاقك،
يخرجون من السجن “أبطالاً ” وكان بعضهم يتبول
في السراويل ونحن نذهب الى المنافي أو الحروب
لأننا أبناء الصمت والفانوس والمزبن،
لاننا لسنا جوقة فنحن واحد.
عندما يهزني الحنين لا أقول مثلك:
” ردي، ردي يا ظعن شت عن هله…وحداي غربة البيه يحدي
ردي ينباع العشك وليا قلب تهوين صدي”.
لا تردّي أنا لا أصلح للتشابه
والتناسخ وأنا مثلك
صرت حدّاي غربة في الليل يحدي،
وصحيح صار العشق ينباع،
لكن لا تردّي.
صحيح أنت من دم ولحم،
لا من صخر قلبك،
لكن لا تردّي.
صحيح أنت ملّيت الصبر،
ومن معك صار ضدك،
لكنك في النهاية مثلنا:
تترس وتبدّي،
ما ظل عندنا ما نترس أونبدّي.
القطار الأخير لم يتوقف في محطته الأخيرة،
السائق مات،
والمسافرون نائمون،
لا ننتظر الوصول بل الارتطام،
متى يحدث الارتطام الأخير؟
كل شيء إنتهى.
حتى المطر صار لصاً في
المصارف.
يقول مدير المصرف الوطني:
” خرب المطر نقود البنك”
ماذا نفعل للمطر اللص؟
ماذا نفعل للغيمة المشاكسة؟
من يدري غداً؟ ربما الأرنب
يطارد الذئب،
والسبع يطلب نجدة الثعلب.
لكنك الأمس فاجأتنا بالهروب الأخير،
هذه ليست قصيدة وتنتهي،
هذي جنازة والميت أنت،
هل صحيح الميت أنت؟
صار الموت يحصد الوادم بالشوارع
وأنت تهرب بالجنازة؟
ليش خويه تهرب بالجنازة،
والنعش ياخذ إثنين،
وأنا أنزف في المنافي مثل ظعن شت عن هله بالليل احدي؟
عمت عين اليصحن اخ من كسر العظام…احاه وجعهن حيل غدرات الايام.
” في النعش متسعُ لأغنيتين،
في النعش متسع لصعلوكين،
كيف مضيت وحدك دون صاحبك
القتيل؟”*
*ــــ المقطع الاخير: للشاعر سميح القاسم

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here