كم اشتقت لك يا أمي!

نيرة النعيمي

ليس الموت بمشهده المهيب نهاية للحياة، ‏حقاً وصدقا بدايةً مختلفة لكل حكاية وكفى بالموت واعظاً، ‏ذاك المهيب الذي يزورنا رغماً عنا، تنفيذ الأمر سماوي وامتثالاً لحكمةٍ ربانية بأن لكل أجل كتاب، ‏رغم الألم الذي يسحقني، اللهم لا اعتراض.
رحلت أمي!
منذ سبعة عشر يوماً ودعتُ أغلى الناس، ذاك الوداع الأبدي القاهر القاتل، وقد عز اللقاء، أشعرني باليتم الكامل بعمرٍ يستعجلني فيه ضعفي وقلة حيلتي إلى الرحيل. لست بالسليمة المعافاة، لأحتمل كل هذا الألم والفقد والفراغ، بوداعها انتهى كل شيء وغادرني كل جميل كنت أحتفظ به لإرضاء أمي، ولم يعد يربطني في ذلك المكان إلى قبرها وبالجوار قبر والدي، رغم أنه ليس على مقربة منها. عاندتني المفردات ولم أُفلح ‏بمداد قلم يجري ‏على ورق تبلله دموعي قبل حبري، ‏كم عشقت مفرداتي وفخامة ألفاظي التي صاغت أجمل العبارات لها قولا وكتابةً وجميل إحساس بكامل حضوره.
أمي.. الطاقة التي أستمد منها القوة
‏ رغم أن الصورة تبدو عكسية، حياة كاملة صاخبة بكل معاني الحب ومفرداته، طاقة إيجابية خلاّقة. رغم ضعفي برفقتها اليومية، كنت مختلفة تماماً عما أنا عليه، وكأن طاقتي تتجدد وتقوى لأجلها، واستعمال الله لي في خدمتها وعند ترابرجليها، حقيقة كنت أشعر بقوة لا مثيل لها وأنا برفقتها، ملبيةً لكل أوامرها، وما أن أقود سيارتي عائدة إلى بيتي، أعود كما أنا، إنسانة عادية بطاقة محدودة، لستُ كما كنت قبل لحظات برفقتها .
‏ذاك هو البر، وتلك هي الطاقة الربَّانية التي يودعها الله في أجسادنا لخدمة من كانوا سبباً لوجودنا في هذه الحياة. برفقتها كنت كاملة الإحساس، وكأني شابة في ريعانها، لطالما شعرت أن كلماتي تتوضأ بالحبر قبل أن تركع في محراب سطر يُكتب لها، وحباً فيها وطلباً لرضاها. تلك هي خسارتي التي لن تعوض برحيلها، انطفأت كل الأنوار من حولي وسادت عتمة المكان ورَان الصمت المهيب.
كم اشتقت لك يا أمي!
قاسيةٌ هي الأيام والليالي، لحظاتي تبدو شاحبةً باهتة وأيامي مليئة بوحشة الفراغ الذي أسلمني إلى غربة المكان والزمان، بدونها كل شيء فوق طاقتي واحتمالي عندما أشتاق ويستحيل اللقاء. هذه الأيام استعجلت الرحيل أكثر من مرة، لشدة شوقي لها وأملا أكيداً بلقائها، ذاك الوجه الملائكي الذي لا زلت أحتفظ بأدق تفاصيله، كلما كنت أقبِّل وجنتيها وطُهر يديها وقدميها، كنت أطيل المكوث على طُهر يديها ونقاءها، حتى أحتفظ بكل جلال تفاصيل أناملها التي غرست فينا كل فضل، ‏ندخره ‏لها إلى يوم نلقاها في جنة عرضها السماوات والأرض، وليس ذلك على الله ببعيد.
أمي، اشتقت حقاً لنبرة صوتك وجلال حضورك، اشتقت لنور ابتسامتك ونقاشاتك التي كانت دائماً تنتهي بنصرك وأنا في قمة سعادتي، اشتقت لعصبيتك عندما أغيرُ ترتيب شيء ما في دولاب ملابسك، أو جارور مقتنياتك، أثناء مرضك قلت لك ممازحة إصفعيني على خدي لأشعر بمدى قوتك وأفرح ، قبَّلت خدي بدلاً من ذلك ، اشتقت تلك القبلة يا عمري والله اشتقت لقائك ، أشتاق لسفرياتي اليومية والوحيدة إلى بيتك صباح ومساء ألتمس الجنة تحت قدميك. أُغلقَ باب الجنة يا أمي، يا كل أشيائي الجميلة. في هذه الأيام أشعر بحاجة ماسة لمن يسمعني ودون مزيد شرح، لأعيد ترتيب الأمور من جديد بطريقة متوازنة علَّها ترضيك، ولا زلت في قلبي وروحي وذاكرتي في جزء دقيق رقيق لا يسكنه إلّا الأوفياء واللامعين أمثالك، يا كل الإشراق، ووجه القمر أنت .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here