يجب ان لا ننسى

محمد حسين النجفي

ما زلنا نستيقظ في عز نومنا مفزوعين، رغم مرور ستين عاماً على ما تعرضنا له وما شاهدناه وما سمعنا عنه من جرائم تعذيب واغتصاب وتسلية بقتل الآخرين الذين هم مواطنون من نفس الشعب ومولودين على نفس التربة. تسعة أشهر سوداء مقيته ابتدأت يوم الجمعة 8 شباط 1963، المصادف الرابع عشر من رمضان من ذلك العام اللعين. إنه اليوم الذي اغتيلت فيه ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 وسُفكت دماء قادتها ومناصريها. انه اليوم الذي وجدت فيه السلطة المرتدة الخائنة إن قوى الأمن والشرطة والمخابرات غير كافية لاعتقال الآلاف من الشباب. لذلك جندوا مؤازريهم، ووضعوا على زنودهم يافطات عار مكتوب عليها (ح. ق.) رمزاً لتسمية (حرس قومي)، يافطات مكتسبة من الحركة النازية في المانيا والفاشست في إيطاليا. سلحوهم بغدارات بورسعيد التي هربتها لهم مصر عن طريق سوريا كي تستخدم لإرجاع عجلة التاريخ الى الوراء بعد ان شهد العراق تقدماً اقتصاديا وانفتاحا اجتماعيا خلال أربع سنوات من عمر الجمهورية الفتية.
حملتٌ شعواء منظمة مسبقاً كي ينفذها الحرس القومي نيابة عن المخابرات الأجنبية. فبدوءا من الساعة الأولى من اليوم الأول باغتيال قائد القوة الجوية الشهيد جلال جعفر الأوقاتي المعروف بوطنيته ونزاهته وشهامته. وبدوءا بقصف مقر وزارة الدفاع حيث دافع ابطال الانضباط العسكري بقيادة آمرهم عبد الكريم الجدة الذي استشهد اثناء القتال. واستشهد المرافق الأقدم وصفي طاهر الذي كان مجمداً في بيته، إلا انه التحق واستشهد دفاعاً عن الثورة التي آمن بها. وهكذا تمٍ اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيد فاضل عباس المهداوي والزعيم طه الشيخ احمد والملازم كنعان خليل حداد دون محاكمة في مقر الإذاعة والتلفزيون وهم جالسين على كراسي الموسيقيين، ونشروا صورهم في التلفاز كي يُرهبوا الوطنيين في الجيش العراقي. ولم يضيعوا الوقت، فباشروا بغزو المصانع والمدارس والدوائر والحارات ليجمعوا كل مواطن عُرف بوطنيته.
ولما لم يجدوا أماكن تكفي لتجميع المعتقلين، حولوا النوادي الرياضية الى مراكز اعتقال وتحقيق وتعذيب وقتل. وليس نادي النهضة الرياضي في الكرادة الشرقية والنادي الأولمبي في الأعظمية وملعب الإدارة المحلية في المنصور إلا نماذج تشهد على ما نقول. وحينما امتلأت النوادي الرياضية، سيطروا على بيوت سكنية وحولوها الى مقرات حرس قومي، منها ما هو علني ومكشوف للعامة، ومنها ما هو سري ومخصص للتحقيقات التي تؤدي الى نهايات فاجعة. أمثلة على ذلك، بيوت استخدمت سراً للتحقيق في منطقة البو شجاع في الكرادة الشرقية، ومنها ما عُرف للشعب رغم عدم رسميته مثل “قصر النهاية” الذي ارتكبت به أبشع جرائم التعذيب والقتل، مما يندى لها جبين الإنسانية. جرائم لم يسبق ان قام بمثلها حتى جستابو هتلر أو فاشست موسوليني.
هذه الجرائم التي ارتكبت، معروف جُناتها، ولكنها مازالت تنتظر من يحقق فيها ويحاسب مرتكبيها، حتى وإن كان معظمهم قد فارق الحياة، لأحقاق حق من أستشهد على ايدي هؤلاء المجرمين، وليكونوا عبرة للتاريخ. مُجرمون لازالت أسمائهم ترن في آذاننا، أمثال: منذر الونداوي، نجاة الصافي، عمار علوش، تحسين معلة، خالد طبرة، ناظم كزار، علي صالح السعدي، حازم جواد، طالب شبيب، أبو طالب الهاشمي، محسن الشيخ راضي، أحمد العزاوي (أبو الجبن)، علي رضا، سعدون شاكر، وغيرهم كثيرون في كل مدينة كبيرة وصغيرة في عموم العراق.
تسعة أشهر مكثفة في جرائم القتل والتعذيب والقاء الشرفاء في المعتقلات والسجون التي اكتظت بهم. سجنوا وفصلوا من وظائفهم خيرة الكادر الإداري والفني والتعليمي. اعتقلوا عبد الجبار عبد الله القامة العلمية العراقية، وعذبوا حتى الممات طبيب الأطفال الدكتور محمد الجلبي، ورموا خيرة الأدباء والشعراء في نقرة السلمان سيئة الصيت ومنهم ناظم السماوي ومظفر النواب. وبدأت اول هجرة للعقول الثقافية والعلمية الوطنية لخارج العراق، وامتلأت السعودية واليمن والجزائر وليبيا وانكلترا والدول الإسكندنافية بتلك العقول النيرة التي لم يسمحوا لها ان تخدم وطنها. لذلك كله يجب ان لا ننسى ما حدث قبل ستين عاماً على ارض الرافدين التي خضبتها دماء الشرفاء على ايدي مجرمين تلك الحقبة من الزمن.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here