الديمقراطية التنوع والتغيير والإختلافات الفكرية

د.ماجد احمد الزاملي

جميع الأنظمة والمجتمعات تقريبا تقول بالديمقراطية،إما بوصف نفسها بالأنظمة الديمقراطية أو بأنها تريد أن تكون ديمقراطية،ولكن على مستوى الواقع القائم نجد أن أوجه التشابه بين هذه الأنظمة التي تقول بأنها ديمقراطية اقل بكثير من أوجه الاختلاف فيما يتعلق بشكل النظام وآلية إدارته وطبيعة الثقافة السائدة فيه.إن المدقق بواقع المشهد الديمقراطي في المجتمعات العربية يلمس أن الجانب المؤسساتي الشكلي للسلطة ووجود انتخابات ودستور ومجلس تشريعي ومنظومات قانونية تتحدث عن الحقوق والواجبات والخطاب السياسي المحفوف بشعارات الديمقراطية ، لهما الغلبة في توصيف المشهد بالديمقراطي أكثر من توفر ثقافة الديمقراطية ومن انعكاس الديمقراطية على الحياة الكريمة للمواطنين. والغاية التي تهدف إليها الدولة في مفهومها السياسي منذ القدم هو وجود نوع من الاستقرار السياسي من خلال وجود تجانس اجتماعي, والاستقرار والتجانس الاجتماعي يُعتبران من شروط الديمقراطية المستقرة، إذ ان الانقسامات داخل المجتمع تحمل في طياتها عدم الاستقرار وبالتالي انهيار الحكم الديمقراطي. إذا كان الكثير من السياسيين اليوم يستعملون في الألفاظ المتداولة كلمة تعددية فإن التعددية المقصودة في وصف المجتمع بالتعددية هو ذلك (المجتمع الذي تعيش ضمنه مختلف قطاعات المجتمع جنبا إلى جنب ولكن بانفصال داخل الوحدة السياسية الواحدة), وقد يضاف إلى هذا نوع من التمايز الوطني.. وقد يكون ما يميز هذا الفصيل عن ذاك معتقدات دينية أو أصول اثنية أو إيديولوجية أو لغوية، وهذا التمايز في الواقع قد يوجد ضمن مؤسسة سياسية حزبية أو حتى منظمة مجتمع مدني داخل مجتمع، ولعل التيارات المؤئتلفة ضمن هيئة معينة أن تكون نوعا من المجتمع التعددي وتحتاج هي بدورها إلى نوع من التوافق ويلاحظ اليوم أنه داخل حزب سياسي واحد تتعايش تيارات متعددة بل تضع لنفسها مسارا للتعايش. الديمقراطية هي ممارسة تتسم بالتنوع والتغيير في الظروف والإشكالات الفكرية والإطار التداولي الذي تظهر الممارسة داخلة , فعندما نتعامل مع الديمقراطية ينبعي مراعاة أنها تراث من التجارب المتنوعة بحسب الظرف التاريخي والثقافة والحاجة والقوى الفاعلة فيها لهذا ينبغي مراعاة التراث على سبيل التثقيف والنسخ عبر ما تفرضه الحاجة والظروف المهيمنة بمعنى, إن نتعامل معها على أنها خبرات ماضية وليس نماذج كاملة. ان للديمقراطية عناوينها من دستور ومؤسسات ومحاكم وانتخابات ونواب وحكومات وصحافة، ولكنها عناوين أفرغت من محتواها وهذا الأمر إظهار لتلك البنية العصبوية التي تقوم على الإقصاء والتمويه وإبقاء الكل في حالة صراع، فهدف السلطة لذاتها داخل العصبية الواحدة،أو مع باقي العصبيات، عبر خلق تحالفات مع بعضها ضد بعضها الأخر وسرعان ما ينتهي هذا التحالف بمجازر دموية تعمق الصراع حول المناصب وتوغل في الإقصاء . لقد أقامت تلك السياسة الاقصائية بإنتاج الرفض الفكري من المفكرين الذين تم زجهم في المعتقلات لأنهم يعارضون أفكار السلطة،هذا قاد السلطة إلى إنتاج العنف المضاد الذي كان يمثل رفضاً لسياستها. أما الإنسان الذي كانت تتحدث عنه فلسفة الأنوار، والذي جاءت الديمقراطية الليبرالية من أجل تحقيق حريته، سواءً في المجال الفلسفي أو في المجال الاقتصادي أو في المجال السياسي، فهو إنسان الطبقة، أي الطبقة البورجوازية. ومن تحول مفهوم سيادة الشعب إلى سيادة طبقة متمكنة هي الطبقة البورجوازية التي أصبحت تمتلك المال والإعلام، ومن ثم فإن الحرية كقاعدة للديموقراطية قد تحولت إلى حرية موهومة دون نفي بعض الامتيازات التي استفاد منها عموم المجتمع وعموما فقد انتهت الديموقراطية الليبرالية إلى تقييد حرية الغالبية, فحرية التملك تحولت إلى تقييد للملكية واحتكارها لصالح مجموعة من الرأسماليين، وحرية العمل تحولت إلى متاجرة بقوة العمل تحت تهديد شبح البطالة، وحرية المنافسة التي طالما اعتز بها النطام الرأسمالي تحولت إلى احتكار منظم لصالح الاحتكارات الجبارة، وحرية الاقتراع أفرغت من مضموها تحت وطأة جبروت الدعاية والإعلام والصحف ذات السطوة والسيطرة الفائقة على العقل البشري، والتي أصبحت تمتلك القدرة على تغيير اتجاهات الرأي العام وفقا للمصلحة الكلية للنظام الرأسمالي. وقد تعرضت الديمقراطية عبر تاريخها الطويل إلى التشويه ، ففي التاريخ اليوناني القديم ظهرت تجربة ديمقراطية, وقد دافع عنها المذهب السفسطائي الذي مثل عامة الشعب, لكن أفلاطون تعرض لهذا المذهب بالنقد وقدم صورة نقدية لتجربة الديمقراطية , وقد يعود هذا إلى الانتماء الطبقي له لانه من طبقة ارستقراطية. ان حرية التعبير ضرورية لكي يتمكن المواطنون فعلا من المشاركة في الحياة السياسية. أي يمكن للمواطنين التعريف بوجهة نظرهم واقناع الاخرين وممثليهم اذا لم تسنح الفرصة لإبداء الرأي بحرية في الموضوعات كافة التي تمس سلوك الحكومة, حرية التعبير ونقد النواقص والاخطاء التي تمارسها الحكومة, كذلك الحق في الانصات للآخرين ، اي قدرة المواطنون على التأثير في برامج الحكومة، فالمواطنون الذين ليس لهم رأي يذكر يخدمون النظام الاستبدادي، لكنهم يكونون كارثة على الديمقراطية. ومن هنا، فإن كل مشروع يهدف إلى تأسيس ديموقراطية في أمة من الأمم ينبغي أن يكون مشروع تثقيف في نطاق أمة بكاملها، وعلى منهج شامل يشمل الجانب النفسي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي… إن الديمقراطية ليست مجرد عملية سياسية ولا هي عملية تسليم سلطات إلى الجماهير وإلى شعب يثصرِّح بسيادته نص خاص في الدستور. فهذا النص يمكن أن لا يوجد أو يلغى من طرف مستبد وتبقى الديمقراطية قائمة باعتبارها شعورا وتقاليد. إن الديموقراطية إذن شعور ومقاييس ذاتية واجتماعية تشكل في مجموعها الأسس التي تقوم عليها الديموقراطية في ضمير شعب قبل أن ينص عليها دستور. فالدستور ليس إلا النتيجة الشكلية للمشروع الديموقراطي، حينما يصبح واقعا سياسيا يدل عليه نص توحي به عادات وتقاليد… ومن هنا تبدوعدم اهمية بعض الاستعارات الدستورية التي تقوم بها بعض البلدان المتخلفة التي تريد إنشاء وضع ديمقراطي بالقياس على الدول ذات التقاليد الديمقراطية العريقة. ان الانتقال على مستوى بلد معين، فإن أول ما يطرحه هو مسألة النموذج الكفيل بتحقيق طموحات الانتقال الديمقراطي، بعبارة أخرى، من أولى الإشكاليات التي يثيرها سؤال الانتقال الديمقراطي، إشكالية النموذج السياسي أو الأفق الذي تسعى إليه النخبة السياسية والفاعلين، والقادر على تحقيق الديمقراطية الفعلية والحقيقية، تبعا لمقومات البيئة السياسية الوطنية، ولطريقة الانتقال. وإذا كان من الصعوبة الإحاطة بكل العوامل التي من شأنها التأثير على صيرورات الانتقال الديمقراطي، وأيضا التأثر بهذا الانتقال، وفقا لعلاقة جدلية تعكس التمايزات العينية والشروط التاريخية لتطور كل مجتمع بشري، فإنه ينبغي في اعتقادنا ربط مسألة الانتقال الديمقراطي بالعوامل الأساسية المميزة لكل بنية اجتماعية تاريخية، أي تحديدا ربط هذا الانتقال بالمستويات الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية، لا بوصفها مستويات للتحليل والتوصيف ، بل باعتبارها مستويات تتشابك واقعيا وفي لحظات تاريخية في وحدة الأحداث الكبرى، أو في الانعطافات الكبرى. لكن في كل الأحوال، فإن الديمقراطية قبل أن تكون بناء لمؤسسات واعتمادا لآليات، وقبل أن تكون مجموعة من القيم، قائمة على مفهوم السيادة الشعبية وشرعية السلطة، فهي ثقافة وسلوك، وذلك يعني أن إقامة الديمقراطية في مجتمع ما لا يتأتى ما لم تتحول الديموقراطية إلى ثقافة، أي إلى تغيير يقع أيضا داخل الإنسان نفسه وعلاقاته بمحيطه الاجتماعي، بدءا من الأسرة ومرورا بشتى المؤسسات الاجتماعية الصغيرة أو الكبيرة التي تنتظم داخلها نشاطاته وانتهاء بعلاقة الحكام بالمحكومين. ما يجري من سلوكيات وأنماط تفكير وتطبيقات للديمقراطية يتطلب إعادة النظر سواء بمفهوم الحرية كشرط ضرورة لأي ممارسة ديمقراطية أو بالنسبة للديمقراطية كثقافة أو بالنسبة لعلاقة السلطة بالمعارضة وبالمثقفين وبالحريات بشكل عام. إن فهمنا الصحيح للديمقراطية لا يستقيم بناء على رصدنا لواقع مجتمع معين، نصدر حكمنا بديمقراطيته بناءا على تعدد الفاعلين السياسيين، وقياسا لقدر الحرية التي يمنحها لأفراده أو الهيئات الفاعلة فيه، أو على أشكال المؤسسات التي يتم من خلالها إنتاج و تصريف قراراته السياسية، التي تتبلور بشكل مباشر و غير مباشر إيجابا أو سلبا على الواقع الموضوعي للمواطنين، فلو اعتمدنا هذه الرؤية نكون في هذه الحالة أمام توصيف شكلي بنيوي يبين الأسس الشكلية للديمقراطية ليس إلا. لا نريد من خلال القول بإعادة النظر بالديمقراطية، التخلي عن الديمقراطية بل إعادة النظر بفهمنا وبممارستنا للديمقراطية وأن نأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي تطرأ على علاقة النظم السياسية بالخارج و بالمتغيرات التي تطرأ على المشهد الثقافي في مجتمعاتنا وخصوصا ظاهرة المد الأصولي والعنف السياسي أو الإرهاب وبروز الجماعات الطائفية والإثنية ،التي كانت تشكل ثقافات غير مسيسة وبالتالي لم تكن حاضرة كقوى سياسية عندما بدأت النخب السياسية العربية تتعامل مع ظاهرة الديمقراطية قبل عدة عقود. والديمقراطية اليوم وخصوصاً خارج المجتمعات التي نشأت فيها تحتاج لمقاربة جديدة تؤسس على الواقع لا على الخطاب ،والواقع أن الديمقراطية تحوَّلت إلى أنظمة حكم وشعارات فضفاضة إن كانت تتضمن مفردات الديمقراطية الحقيقية وتعبّر عن ثقافة الديمقراطية في بعض المجتمعات إلاّ أنها في مجتمعات أخرى تعبّر عن ألتوق إلى التغيير ورفض الاستبداد والقمع والسعي للحياة الكريمة بغض النظر إن كان النظام القائم أو المراد الوصول إليه مُهيكل حسب النظرية الديمقراطية.
وفي الفكر الغربي تطوَّرت صورة الديمقراطية والمجتمع المدني الذي قادته الطبقة البرجوازية ، إلا أنها تعرضت لنقد على أيدي مفكري الاشتراكية, وقد تولدت حركات كثيرة ترفض الديمقراطية كما هو الحال في الأنظمة ( الأحادية ) القومية كالفاشية والنازية التي تقوم على تصور عنصر قومي استعلائي ، وقد يتردد الباحثون في استعمالها لما أصابها من غموض, وتداخل في المعنى مع غيرها من المصطلحات السياسية لكن محاولات السياسيين والمنظرين في تحديد دقيق للمفهوم أو مفهوم بديل لم يحالفه الحظ ، إلا إن الديمقراطية بقيت لا بديل عنها في توصيف ذلك الفعل السياسي الذي رغم ادعاء الكثيرين من تمثيله لكنها تبقى تمثل قيم المجتمع الحر الليبرالي, وتعبر عن تاريخية التجربة والحقب المعرفية والاجتماعية التي مر بها المجتمع الغربي عبر علاقته بالذات بالتفاعل, وعبر علاقته بالأخر بالصراع والسيطرة واثر هذا على تطور مفهوم الديمقراطية عبر التاريخ. الديموقراطية ليست مؤسسات أو دساتير، ولكنها استعداد نفسي وتربوي، وهي شعور لا يتحقق فقط بتغيير العلاقات تغييرا فوقيا، ولا هو شعور معطى بشكل قبلي. إنه خلاصة ثقافة معينة وتقدير جديد لقيمة الإنسان, تقديره لنفسه وللآخرين.
وإذا حاولنا توظيف المعطيات التي ذكرناها في مجال العلاقة مع الديمقراطية يتبين أن تلك العلاقة يجب أن تكون علاقة تكييف، أي عملية استيعاب وملائمة، مما يقتضي فهماً لمقاصدها وآلياتها، و جهدا يتم بموجبه تهيئة الظروف الملائمة لها في داخل مجتمعاتنا. لعل الإشكالات التي تعترضنا عن الديمقراطية بمفهومها التاريخي، و تجلياتها على الواقع المعاش، وما يترتب عن تطبيقاتها الموضوعية من أوضاع سياسية وانعكاسات اقتصادية واجتماعية، هل ان مفهوم الديمقراطية يرتبط بالحرية والتعددية الحزبية والمؤسسات التي يتم من خلالها تطبيق القرار السياسي، التي يتوفر عليها مجتمع ما، و بالتالي يتم تصنيف المجتمعات إلى ديمقراطية و غير ديمقراطية حسب كثرة أحزابها و درجة توفرها على تلك المؤسسات، أم أن الديمقراطية ترتبط بالحالة التي يعيشها أفراد مجتمع ما من الناحية السياسية و الاقتصادية والاجتماعية، بغض النظر عن المؤسسات التي تنتج هذه الحالة، أو القوى الفاعلة فيها، و هل الديمقراطية تعبير فعلي عن سيادة الشعب، وبالتالي يمكن الحكم على مجتمع ما أنه ديمقراطي من خلال مسائلة أفراده، و بالنظر إلى الأوضاع التي يعيشونها في جميع مناحي حياتهم.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here