حمزة الحسن
ـــ ـــ يتوارى الواقع ليس عن منتقديه فحسب،
بل حتى عن الذين يدافعون عنه.
* جان بودريار، فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي: مؤلف: إطروحة موت الواقع.
لماذا في الثقافة السياسية يتم توصيف زعماء
تحت عناوين سياسية أو هويات عقائدية
كعبد السلام عارف القومي وصدام حسين البعثي
وعزيز محمد الشيوعي،
ونوري المالكي الدعوي والهاشمي الاخواني والبرزاني الكردي والخ؟
هذه الهويات الملطوشة هي أبواب طوارئ وانقاذ هؤلاء
من تحمل المسؤولية الشخصية،
فلم يكن صدام حسين بعثياً يوماً
وهو صاحب الحفل الوحشي وذبح الرفاق عام 1979،
ولا عارف قومياً ولا عزيز محمد شيوعياً،
وانتقل البرزاني من رجل ثورة الى رجل سلطة ،
وفي كل واحد من هؤلاء جزء من الآخر:
تجد النزعة القومية في عزيز الشيوعي،
وتجد النزعة الستالينية في صدام البعثي،
كما تجد السلوك الطائفي في عارف القومي
وتجد العقاري في مسعود
والمصرفي التاجر في المالكي الدعوي والخ.
الهويات الفردية هي من يحكم سلوك هؤلاء
وليست المبادئ التي غادروها.
هؤلاء انتقلوا من الهويات العامة الى الهويات الفردية
وقطعوا كل علاقة لهم بالماضي
لكن العقل الاختزالي ونظرته لهؤلاء لم تتغير،
لأن العقل الاختزالي المتخلف يحبس الأفراد في موقف واحد
الى الأبد بلا مراجعة.
لماذا هذه الحدود القاطعة والهويات الصلبة لهؤلاء،
مع أن هؤلاء خربوا الهويات السياسية والعقائدية التي
حملوا عناوينها؟
العقل الاختزالي عقل متخلف مانوي ثنائي يحبس الناس في خانات وأوصاف أبدية وذهنية الوصم سائدة في العقل السياسي سلطة ومعارضة ويمارس بتلقائية
لانه جزء من النسيج الذهني والبنيوي لذات معتقلة من د اخلها بلا فحص ولا مراجعة.
في الاحزاب الاسلامية مثلا نعثر على شخصيات البعثي والقومي والارهابي والعدمي،
وفي الاحزاب اليسارية نعثر على أفرا د وجماعات قومية ومتطرفة وعنصرية والخ،
وفي معارضة اليوم ـــ مثل معارضة صدام ــــ نعثر على نزعة الانتقام والتشفي وتصفية الحسابات وغياب مشروع الدولة الوطنية
لأ ن النظام ليس جيشا وشرطة بل عقلية وطريقة تفكير ولغة وتعامل وليست شعارات.
صدام أول من إجتث حزب البعث وحوله الى حكم فرد،
بل نقل تقاليد الشوارع الخلفية للسلطة واستعمل الحزب غطاء ،
وعارف هو من سحق النزعة القومية بسلوك الاستهتار والجهل
والأمية والطيش،
وعزيز محمد هو من ورط الحزب الشيوعي في تحالف هو فخ
تحت تبعية الاتحاد السوفيتي أدت الى تصفيته،
ثم تحول بعد ذلك الى زعيم حزب شيوعي بنزعة قومية،
وظل التوازن القومي في هذا الحزب قائماً حتى اليوم
سواء في قيادته أو اللجان القيادية،
ونوري المالكي هو من أنهى تاريخياً عملية تصفية حزب
الدعوة ولم يبق منه سوى شركة بعنوان حزب،
وهو ما عجز عنه صدام حسين في مجازر وحشية ضد شباب
وشابات الحزب،
لكن المالكي وفصاحة إبراهيم الجعفري وغيرهم،
من تولوا مهمة التصفية ولم يبق غير مراسم الدفن المؤجلة.
هؤلاء أنتجوا لنا جيلاً جديداً يتمترس خلف
هويات سياسية وعقائدية مثل النجيفي والمطلك
وعلاوي وفائق الشيخ علي والخنجر وغيرهم،
بعد أن صارت السياسة مؤسسة مصرفية وتجارية ربحية،
وملجأ الانذال بأقنعة سياسية ونحن نوفر لهم فرصة ذهبية لحشد الاتباع
بدمجهم في عقائد وطوائف ومباديء للتمترس خلفها.
في الثقافة القانونية هناك المسؤولية الشخصية للفرد الحاكم
أو الفرد العادي وهو وحده يتحمل المسؤولية الجنائية عن أفعال
تمت بأوامر منه وتتدرج هذه المسؤولية على الأدنى سلطة
في الدولة أو الحزب،
وتحميل هؤلاء هويات سياسية و عقائدية،
يعني فتح باب الهروب والطوارئ للتملص من المسؤولية
الشخصية ونحن ننساق خلفههم في لعبة التخفي وراء أقنعة متينة.
لكن هذا لا يعني أن هذه الهويات السياسية والحزبية هي بريئة أيضاً،
لأن أي فكر سياسي بصرف النظر عن شعاراته
عندما يتحول الى حزب بوليسي،
يتحول الى مؤسسة ودولة وأجهزة،
لأن الفكر مضاد تماماً للمأسسة:
الفكر شك وبحث وقلق ومغامرة فكرية وأسئلة مستمرة،
والحزب والمؤسسة ثبات وقوانين وحدود وأجوبة جاهزة:
الذي إغتال ماركس هو ستالين الذي حوله الى كاهن،
يمكن ملاحظة صور ماركس السابقة بملامح الكاهن والجبهة العالية والنظرة
نحو الأفق،
والذي حول أفكار عفلق القومية المدرسية الانشائية السطحية عن الأمة
الى مؤسسة بوليسية جهنمية هو صدام حسين،
وبالطريقة نفسها حول المالكي حزب الدعوة الى مؤسسة تجارية
ومالية ومنظمة مسلحة لحمايته هو بذريعة حماية تراث الحزب
الذي أنهاه هو بالذات.
من مصلحة هؤلاء جميعاً دمجهم في هوية كبيرة
أو كتلة ضخمة أو حزب او طائفة أو قومية،
لأن هذا مفيد لهم في التعبئة والحشد في الدفاع عن مصالحهم
أو جرائمهم الخاصة،
ونحن نوفر لهم باب الطوارئ بأريحية،
في حين عزل هؤلاء عن الهويات والعقائد الكبيرة يضعهم
في موقف العاجز والضعيف والمحاصر الذي يسهل التعامل معه
في ظروف مناسبة،
بعد نزع القناع عن وجهه وما أكثر الأقنعة.