أي تفوق ستمنح عضوية الناتو لفنلندا أمام روسيا؟

هلسنكي ــ يوسف أبو الفوز
نشرت في المدى البغدادية ليوم 26 شباط 2023

في اخر تصريحاته، لوكالة الانباء الفنلندية (السبت 11 شباط)، أعرب الرئيس الفنلندي الحالي (ساولي نينستو) (مواليد 1948)، عن اعتقاده بان بلاده والسويد ستكونان عضوين في الناتو، في القمة القادمة، المزمع عقدها في العاصمة الليتوانية، فيلنيويس، في الفترة 11 ـ 12 تموز القادم.
يا ترى ما هي أسباب هذا الالحاح والإصرار الفنلندي لدخول حلف الناتو؟ هل هو فقط للشعور بالتفوق العسكري لمواجهة هجوم محتمل من قوات الجارة روسيا التي لها معها حدود مشتركة تمتد لأكثر من 1300 كم عبر غابات وبحيرات متشابكة؟
على غرار مصطلحات ظهرت في السياسة في الشرق الأوسط مثل (اللبننة ـ من لبنان)، (العرقنة ـ من العراق)، وهكذا …ألخ، تم تداول، خلال سنوات الحرب الباردة، في القرن الماضي، في فنلندا ودول حلف الناتو مصطلح (التفلدن ــ Finlandization)، لكن الفنلنديين كانوا ولا زالوا، لا يشعرون بالارتياح لهذا المصطلح كثيرا، بل ويتعبروه إساءة وإهانة كبيرة لمشاعرهم الوطنية والقومية!
ظهر المصطلح لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية باللغة الألمانية Finnlandisierung))، إذ كان الالمان الغربيين أول من أستخدمه، حيث ورد في محاضرة للأستاذ الجامعي والصحفي (ريتشارد لوفينثال) (1908 ــ 1991) من جامعة برلين الحرة، والمقصود به (أن تكون مثل فنلندا) في رسمها السياسة الخارجية والداخلية، التي كانت ترسم وفقا لرضا الجار السوفياتي، والتي يعتبرها كثيرين نوع من الهيمنة. واستخدمه معارضو المستشار الألماني (ويلي براندت) (1913ــ 1992)، زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، الذي كان مستشارا لألمانيا الغربية للفترة (1969 ــ 1974) واعتمد حينها سياسة خارجية منفتحة على المانيا الديمقراطية وعموم أوروبا الشرقية، فاعتبرت مؤيدة للجانب السوفياتي فأتهم بأنه يعتمد (التفلدن) في رسم سياساته.
ظهرت ملامح سياسة (التفلدن)، في السياسة الفنلندية، في الفترة التي حكم بها الرئيس الفنلندي الثامن (اورهو كيكونين) (1900ــ 1986)، الذي ينتمي لحزب الوسط، وكان السياسي الأطول من بقي في مواقع السلطة، فقد تقلد عدة مناصب وزارية ورئاسة البرلمان، قبل ان يصبح رئيسا للوزراء للفترات (1950–1953)، و(1954–1956) ثم رئيسا للجمهورية لأربع دورات متتالية امتدت لما يقرب 26 عاما، ويمكن القول انه كان يتحكم بالسياسة الفنلندية لمدة 31 عامًا. في سنوات رئاسته تعززت سلطة رئيس الجمهورية، على حساب سلطة مجلس الوزراء والبرلمان، بل ورغم ان الحكومات كانت تتشكل دستوريا وفق الأغلبية البرلمانية، الا أنه كان يتدخل كثيرا في صلاحيات الهيئات التشريعية والتنفيذية وترشيح الوزراء وتشكيل التحالفات السياسية، وبذل جهده لإبقاء خصومه تحت سيطرته، اذ ظل حزب الائتلاف الوطني الفنلندي (يمين تقليدي) لأكثر من عشرين سنة في صفوف المعارضة، ولجأ مرة الى التهديد بحل البرلمان لفرض مرشحه لرئاسة الوزراء، وفي النصف الثاني من فترة حكمه، ظهر ما سمي (سياسة K) نسبة الى كيكونين نفسه ورؤساء الوزراء في عهده آهتي كاريالينين (1923ــ1990)، الذي سبق وكان وزير خارجية لعدة تشكيلات حكومية، وايضا آرفو كورسيمو(1901ــ 1969)،التي في مجملها عززت العلاقات الودية والتجارة الثنائية مع الاتحاد السوفيتي، والملفت أنه حتى خصوم كيكونين كانوا لا يستطيعون ادانته، رغم وضوح تسلطه، بحكم ما نجح في تحقيقه في سياساته الخارجية والاقتصادية، حيث نجح اقتصاد السوق الفنلندي بمواكبة أوروبا الغربية والجار الاتحاد السوفياتي، وفي رئاسته استضافت هلسنكي مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا عام 1975، ويذكر له الفنلنديين مساعيه لاستعادة الاراضي التي استولى عليها ستالين ضمن العقوبات لفنلندا التي دخلت في سنوات الحرب في تحالف مع هتلر، خصوصا دورها في حصار لينينغراد، فأقرت ضدها سلة من العقوبات والقيود، ضمن اتفاقات في عامي 1947 و1948، اعتبرت مجحفة بحق فنلندا، منها استيلاء الاتحاد السوفياتي على مساحة تشكل حوالي 12 % من الأراضي الفنلندية اعتبرها ستالين حزام آمن، ورغم ان فنلندا ألغت الاتفاقات بعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، فأن الحدود لم تغيير ولا تزال هذه الأراضي لحد الان جزءا من الأراضي الروسية.
الان، مع تزايد نشاط الاحزاب اليمينية، وارتفاع حظوظ أحزاب اليمين المعتدل والمتطرف في الانتخابات البرلمانية القادمة في ابريل، فان دخول فنلندا حلف الناتو، سيكون شيئا من الاستقواء العسكري والسياسي والمعنوي على الجارة روسيا التي يتعبر الكثير من السياسيين في فنلندا انها ورثت من الاتحاد السوفياتي ليس قواه النووية فقط، بل واسلوب ممارسة الضغوط لاستمرار سياسة (التفلدن)، فحين كثرت لقاءات الرئيس الفنلندي الحالي نينستو مع الرئيس الروسي بوتين، واعتبر بعض المراقبين ان هذا يجعلهما يكونا صديقين، فحالما تفجرت المشكلة الأوكرانية، وعشية غزو أوكرانيا، وإذ عول الكثيرين على هذه الصداقة المفترضة، انبرى الرئيس الفنلندي لرد التهمة عن نفسه والنأي عن أي علاقة صداقة، بل والادلاء بتصريحات عن صعوبة فهم شخصية بوتين وماذا يريد. وهكذا ترى أوساط فنلندية عديدة، ان دخول الناتو، سيحقق الكثير من الاهداف، ومنها كونه الفرصة المناسبة للتخلص من عبأ (التفلدن)، وعقدة الجار المهيمن، الذي التصق بفنلندا لفترات طويلة، وترك تأثيره النفسي على مختلف الأجيال، بل ويدفع بعض الأوساط السياسية للنظر بدونية الى فنلندا كدولة مستقلة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here