(اسبوع القبانجي)، ذكرى مرور ثلث قرن على رحيله !

(اسبوع القبانجي)، ذكرى مرور ثلث قرن على رحيله !

انشر مذكراتي في خمسة حلقات بين يوم وآخر .

د. رضا العطار ح1

شخصية القبانجي !

رحل الفنان الكبير محمد القبانجي الى بارئه عام 1989، بعد ان عاش 88 عاما. كانت حياته زاخرة بالعطاء والكرم ، كان رحمه الله بالنسبة الى العراق بلبله الصداع لسبعة عقود خلت، ملأ سمائه خلالها بمشاعر البهجة والسرورا، كما جعل قلوب العراقيين بفضل اغانيه، تخفق فرحا، وقد اتسمت بعض اغانيه بصبغة الفلسفة يجعلك تتأمل، منها اغنية المجرشة !.

كان القبانجي مرح الطبع بشوشا فياض العاطفة، كان مظهره جادا ورزينا جدا، محب للنكتة الهادفة. كان ما يُعظم في شخصه بساطته التي جعلت الاخرين يشعرون انهم قريبين منه، كانت علاقته مع مجتمعه متسمة بعلو الاخلاق.

كان سجل القبانجي في الولاء الانساني باهرا.

بدأ محمد القبانجي بالغناء وعمره 12 سنة، وقد لُقب بمطرب العراق الاول في المؤتمر الموسيقيين في القاهرة عام 1932 بحضور الملك فؤاد، ملك مصر.

وكانت له مناظرات فنية مع كل من ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب. وفي احد الايام وخلال تجواله مع احمد رامي على شاطئ النيل صنعا اغنية غزلية، وضع الاخير كلماتها.

.

كان مسؤول مكتب القبانجي موظفا يهوديا يكنى ب (صالح)، لا اعرف اسمه الحقيقي، واظن انه كان اخر يهودي ترك العراق، كان القبانجي يعتز به كثيرا وهذا وحده يكفي، طالما كان مساعده كفوأ ملتزما مخلصا في عمله!

وفي احد الايام اتصل بي صالح هذا هاتفيا ليقول لي : دكتور صديقك القبانجي مريض، قلت له خير، قال ماخذ برد ـ ـ وفي مساء نفس اليوم ذهبت الى داره مصطحبا معي زوجتي سميرة العطار، نتفقد صحته، فوجدته وقد اشعل مصابيح الدار كلها، فلما سُئل عن السبب، قال : ابتهاجا بقدومكم، هكذا كان خلق القبنجي الكبير كبيرا ! .

وبعد الاستفسار عن صحته والاطمئنان على راحته والدعاء له بالشفاء، جرنا الحديث الى عالم الفن، نتحدث عن الموسيقى والغناء واخر المستجدات وهنا ارتئ صالح ان يرطب الجو فقال متندرا، الناس يقولون : القبانجي اكو بداخله كمنجة ! فإبتسمنا.

قلت للقبانجي: يسعدني ان اراك يا استاذ محتفظا بصحتك على الدوام، فعافيتك بالنسبة الى عمرك موضع اعجاب (دق على الخشب) فما هو السر ؟ اجاب القبانجي بعد برهة:

اثناء مؤتمر الموسيقيين العرب في القاهرة عام 1933، دُعيت من قبل شركة المانية للاسطوانات الى المانيا لتسجيل بعض الاغاني، وعند حضوري هناك، اقترحت الشركة علي ان يفحصني طبيبها، وبعد اجراء الفحوص اللازمة نصحني ان اتفادئ اكل الحلى قدر الأمكان. فأطعت نصيحته، والان اجني الثمار،

فصحتي جيدة عبر العقود الماضية ولله الحمد.

ويقول د. رضا، وعلى اثر تلك النصيحة اشرب الشاي بدون سكر.

وهنا تذكرت جماعة العوام عندنا في العراق حينما يزورون مريضهم بالسكر الراقد في المستشفى لا يأخذون معهم باقة من الزهور بل علبة محترمة من خوش بقلاوة، حتى ينتهي الامر بمريضهم الى خوش موته.

وفي معرض الحديث عن الحلويات برق في ذهني يوم دعيت القبانجي الى داري في الجادرية ببغداد في اوائل السبعينيات من القرن الماضي مع صحبة من الاحبة لأحياء حفلة غنائية بمناسبة عائلية، وفي غضون ذلك قدمت زوجتي ام مها الى الضيف الكريم قدحا من عصير البرتقال وقالت، انه جديد، اليوم جابوا من بستان كربلاء، لكن الاستاذ أعتذر عن تناوله قائلا: شكرا سيدة، لكن احنا ما نريد شيء جديد، احنا نريد شيء عتيق! فشاع السرور

كان القبانجي في حفلاته الغنائية مطربا طروبا، وقد توهجت موهبته الغنائية باللمعان وتجلت مقدرته الفنية بالتلألئ في الحفلة التاريخية التي اقيمت في بغداد في اواخر السبعينيات من القرن العشرين بمناسبة زيارة احمد رامي للعراق، وكيف ان الاخير قد رمى بمعطفه في الهواء منتشيا، وقد هزه الطرب وصار عاطفيا ! بينما اجتاح الجمهور موجة عارمة من الهياج ممزوجا بمشاعر الفرح و الانشراح.

انجازات القبانجي في عالم الفن كثيرة، فهو الفنان المجدد، له مدرسته واسلوبه المتميز. وهو الرائد في نقل قرائة المقام من المقاهي الى الصالونات الكبيرة لأحياء حفلات المقام

كما كان للقبانجي الدور الاول في ادخال نغمات الحجاز والبيات في مقام الاورفه، مع احتفاظه بالطابع البغدادي والقبانجي هو المبتكر لمقام قطر والحويزاوي، المنتشران في جنوب العراق وخاصة في محافظة العمارة الى جانب مهارته الفائقة في التصرف والانتقال من مقام الى اخر بكل اقتدار. لقد تعززت السيرة الفنية للقبانجي وبلغت ذروتها في العصر الذهبي في المقام. وقد تتلمذ على يد الاستاذ القبانجي جملة من قراء المقام امثال حسن خيوكه ويوسف عمر وناظم الغزالي. هكذا خُلد القبانجي في عالم الفن كخلود الالوان في الاشجار، وغدا متوجا بعرش (عميد المقام العراقي)، مكلل بغار المجد، حقا ان القبانجي كان للوطن زينة

اما اذا سألتني عن علاقة القبانجي بماء الكرم، فأقول :

لا زال ماء الكرم يغني، مجاراة لما يجري في الطقوس الاحتفالية لدى الرومان منذ قديم الزمان: يقيمونها سنويا تقديسا لمعبودهم ( باخوس )، إله الخمرة، وقد تجلت مقاصده واستوضحت اهدافه عند الاستاذ القبانجي، خاصة عندما غنًى في مجلس طرب في احدى المناسبات النظم التالي.

قالوا شربت الاثم قلت كلا وانما * * * شربت التي في تركها عندي الاثم

شكرت الاستاذ على رعايته وهممنا بالمغادرة، فاتجهنا نحو الباب، وتبادلنا عبارات المجاملة المألوفة، شكرنا الاستاذ القبانجي على زيارتنا اليه، مقدما الى زوجتي ام مها سبحة كهرب هدية، قائلا : السبحة عزيزة عندي، لي فيها ذكريات تاريخية مجيدة.

شكرنا الاستاذ على السبحة، بادين فرحتنا بها، وهي موضع اعتزازنا حقا، أنها هدية الفنان الكبير محمد القبانجي.

.

الحلقة التالية بعد غد

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here