حمزة الحسن
لم أعرف ان القطار غادر الاراضي النرويجية وجبالها الوعرة ذلك الصيف،
ودخل السهول السويدية المفتوحة على النهار،
الا عندما وقفت أمام بائعة القهوة
في القطار لتقول لي بلهجة سويدية:
” كيف تريد القهوة؟”.
قلت:
” أين نحن الآن؟”
بالتهذيب الاسكندنافي المعروف قالت باسمة:
” نحن دخلنا السويد”
قلت مع نفسي :
نحن اذا سافرنا من المطبخ الى الحمام،
ومن الطابق الاول الى الثاني،
ومن بلدة الى أخرى،
بل من شارع الى شارع،
فعلينا أن نحمل كل الوثائق لنواجه مختلف أنواع مفارز الشرطة،
ونفكر بكل أنواع الذنوب الحقيقية والمتخيلة،
حتى نصل المكان الأخير،
وقد تقلصنا من الخوف الى أصغر حجم.
عدت وجلست في مقعدي وفتحت الحاسوب الصغير،
جهاز كاندل الصغير لحمل الملفات
وقراءتها على شكل كتاب،
لكني عثرت في ثنايا الملفات على أغنية ” مرينه بيكم حمد”،
كما لو ان القطارات القديمة،
تطاردنا في هذه السهول السويدية المشعة،
ومع انسياب الأغنية شعرت ان هذه الرحلة نحو أمكنة أخرى،
وقطارات أخرى وحقول وقناطر وسهول أخرى.
” مرينه بيكم حمد،
واحنا بقطار الليل،
واسمعنا دك إكهوة،
وشمينة ريحة هيل”
وعندما وصلت الأغنية الى مقطع:
” آنه أرد ألوك الحمد ـــ مالوك أنا الغيره”
سمعت خلفي نشيجاً مباغتاً كمطر صيفي في يوم مشرق،
لكن أصابعاً وضعت على كتفي من الخلف كسرب عصافير فز من ذاكرة قديمة ،
والتفت.
كانت امراة تنشج في المقعد الخلفي. قالت:
” خوية حمزة، أرجوك، أوقف الأغنية”.
عندها خيل إلي اننا في القطار العراقي،
ليل وفوانيس وقهوة وتحت السنابل قطا وريحة هيل،
ومحطة المكّير صامتة تحت تلك النجوم البعيدة.
عادت لتقول أمام ذهولي وهي تقف خلفي:
” انت سمعتني، أوقف الأغنية”
يمكن إيقاف المغني،
لكن كيف نوقف الأغنية؟
يمكن ايقاف الجهاز،
لكن كيف يمكن ايقاف الذاكرة؟
يمكن ايقاف القطار
لكننا لا نستطيع ايقاف رحلة القلب.
وقفت امامها فتاة سويدية من المسافرين،
عادة الاسكندنافي اذا شعر بتوجع الآخر، وقالت:
” انت بخير سيدتي؟”
لم تجب لكني قلت:
” هي بخير لكنها الأغنية”
” آه…. فهمت”.
أعرف تلك المرأة التي سكنت معنا في عمارة بيرغن،
الجنوبية التي أُعدم خطيبها قبل حفل الزفاف بإسبوع.
اوقفت الأغنية،
لكني عندما نظرت الى السهول السويدية المشرقة،
وطواحين الهواء،
والابقار في المراعي،
رايت، في النهار الصريح، الأبيض، الهادئ،
قطاراً قديماً يعبر سهولاً آخرى،
قناطر وأكواخ وسمعت دق قهوة وضرب الفناجين،
وفز القطا،
ورجلاً يخرج من باب المضيف،
يحمل فانوساً،
ولم تتوقف الأغنية في رأسي بل صارت ترن بقوة:
” هودر هواهم ولك،
حدر السنابل قطا”.
سمعتها تواصل النشيج:
انه العشق العراقي النقي.
الحزن الذي يجعل صاحبه لا يأكل ولا يشرب،
يغرز أظافره في تبليط الشوارع،
ويمسح وجهه بالتراب.
كانت تكلم نفسها:
” لو أدري الدموع تفيد،
كان أفتح بياب العين حتى إيكايش المردي”
هذه المرة تبادلنا النشيج المر.
هذا ليس فيلم “القطار” لانغمار بريغمان،
ليس قطار بودابيست في ذلك الصيف البعيد،
ليس القطار الباكستاني يوم خرجنا من السجن الى المنفى،
ليس قطار الدار البيضاء،
ليس قطار محمد خضير في بصرياثا،
وفانوس الحارس الليلي الاخضر في محطة أور،
ولا قطار حكاية محمود عبد الوهاب في قطاره الصاعد الى بغداد،
لكنه قطار حسين عبد اللطيف:
” قطار الحمولة،
قطار الليالي،
قطار السنين الخوالي،
إلى أين تمضي بركابك الميتين؟”.