حمزة الحسن
ـــ هذا الوطن سينهار يوماً بحرب أو بلا حرب لأن رائحة التفسخ في كل مكان لكن أحداً لا يشم.
ـــــ الأعزل: سيرتنا الذاتية الروائية الصادرة عام 2000. دار نشر بريغمان.
الذين رأوا المأزق العراقي اليوم من تاريخ الاحتلال،
رأوا فقط الجثث والحرائق والخراب،
لكنهم لم يشموا رائحة التفسخ التي بدأت منذ انقلاب 1963
وتضخمت في انقلابات الستينات وما بعدها:
لا تنهار المجتمعات، فجأة، ولا يتداعى الانسان فجأة،
السقوط متدرج وعبر مراحل.
اذا كان هناك من لم يشم رائحة التفسخ، مبكراً،
فليس لأنه غير موجود،
بل بسبب الادمان او غياب الرؤية أو الاستسلام للمظاهر،
أو الرؤية من خلف الحجاب ومفاهيم مبسطة وتفكير رغبي واوهام ساذجة والخوط جنب الستكان بلا غوص في حلقات المتاهة.
نحن في مأزق وليس في مشكلة لان في كل مشكلة يوجد الحل،
لكن المأزق مغلق وتدرج عبر مراحل من مشكلة الى ورطة عابرة الى أزمة ثم معضلة واخيرا مأزق والقادم هو الكارثة.
كان العراق يتداعى منذ أكثر من نصف قرن،
لكن الدكتاتورية وفرت” الطعام” و” المأوى”و” الأمن” البوليسي كما يوفر الراعي الامن للقطيع وغياب العدالة،
من أجل السيطرة ومن هنا الشعور ان المأزق بدأ بعد الاحتلال.
انها الرتابة التي يخلقها الارهاب الطويل،
والشعور الزائف بالطمأنينة لأبقار المسلخ أمام العشب.
اذا لم تكن الصورة قاتمة قبل الاحتلال كما نقرأ أحياناً،
فكيف نفسر كل تلك الحروب: 1973 اسرائيل. 1974 – 1975 معارك الجبال. وتصفيات دموية. اعتقالات واعدامات للقوى الوطنية. حرب الخليج الاولى 1980 واكثر من مليون ونصف ضحية وجرحى وملايين الارامل واليتامى . قرابة اربعة ملايين هارب خارج العراق. غزو الكويت 1990، الحصار الطويل، تفكك المجتمع ومئات الالوف من الضحايا بسبب حصار هو ابادة بكل المعاني. بتر اذان وقطع رؤوس في الشوارع كما يجري اليوم والجاني نفسه، ثم الاحتلال الذي مهدت له الدكتاتورية بالطيش والرعونة.
كيف لا تكون الصورة قاتمة قبل الاحتلال بعد كل ذلك وان التداعي بدأ بعد الاحتلال؟
مقاربة هذا المأزق من نهايته كمن يمسك العجل من ذيله،
وهذه المقاربة هي القراءة السائدة لكل الاحداث كما لو ان الظواهر البشرية المعقدة تبدأ من لحظة الظهور،
بلا مرحلة نمو وجنين ودورة اكتمال وولادة.
المأزق العام كائن حي له تاريخ نشوء ومناخ وظروف ولحظة الانفجار هي اللحظة الاخيرة:
الانفجار العام ليس المأزق بل تراكم طويل لعاهات واخطاء وجرائم لا يشكل الانفجار سوى رأس جبل الجليد الغاطس
الثقافة المشهدية مغرمة بالشعارات الكبيرة لكن الشيطان في التفاصيل وهو ما لم تستطع الثقافة السياسية التبسيطية الاقتراب منه وهو مجال عمل الفكر والادب لا نخب السياسة
ونحن ثقافة بلا سياسة وسياسة بلا ثقافة.
من يبحث عن الغاطس ونحن نغرق في برك الاحداث؟
تحديد المأزق العراقي بالاحتلال، ليس سوى من يشم الرائحة بعد رفع الغطاء،
المشكلة ليست في الجيفة بل في حاسة الشم،
وحاسة شم المثقف حاسة يفترض ان تكون استباقية ورؤيوية:
رؤية عري الامبراطور الكاذب كما في حكاية أندرسون للأطفال،
ورواية” أرخبيل الغولاغ” للروائي الروسي ألكسندر سولجنيتسين أوائل السبعينات
وتوقع فيها إنهيار الاتحاد السوفيتي في قمة قوته وجبروته.
القول ان الكارثة بدأت بعد الاحتلال،
يشبه قول المريض ان المشكلة بدأت من لحظة التشخيص.
الأعراض ليست البداية بل نهاية مقاومة الجسد،
وفقاعات البحيرة ليست القاع.
الاحتلال كشف الغطاء عن المسكوت عنه والمخفي.
كان العراق مغطى بالشعارات والاكاذيب والرعب وبرامج الاحزاب الحليفة التي مهدت لكارثة ثم تنصلت.
انهيار المجتمع ليس بسبب الاحتلال وحده،
بل بسبب النخر والارهاب السلطوي وتفتيت المجتمع وتقسيمه،
وبناء هيكل الارهاب بعد ان شعر رأس النظام ان السقوط قادم،
لذلك بدل الاستراتيجية من التثقيف الحزبي القومي الى التثقيف الديني:
كان الدكتاتور قد أعد المجتمع وفق شعاره” من يستلم العراق، يستلم أرضا بلا شعب”
بعد زرع المجتمع بكل الضغائن والتناقضات.
المجتمعات المتماسكة لا تتداعى تحت الاحتلال والهزات الاجتماعية بل العكس تتماسك أكثر وتستجيب للتحدي:
فرنسا تماسكت في وجه النازية والاتحاد السوفيتي وحتى المجتمع النرويجي الاكثر هدوءا وحباً للمرح والهدوء والحرية شكل فرق مقاومة سرية ويُحتفل برموزها حتى اليوم.
المجتمعات الخاوية كالحيطان الخاوية تتداعى تحت العواصف والهزات والرجات والتحولات العاصفة وزخات المطر والرياح،
ليس لأن التحدي قوي بل المجتمع هش،
والكيان العام مؤسس على الغش والرعب.
العواصف والامطار والهزات ليست مهمة بذاتها،
لكنها تكشف اساسات البناء.
لا ينحط الانسان فجأة لكنه ينتظر الفرصة لكي تنهار الأقنعة،
لكن الانسان المنسجم والمتماسك يزدهر في العاصفة،
الأمر نفسه ينطبق على المجتمعات،
المجتمعات الخاوية تنهار والسليمة البناء تتماسك في العواصف.
كانت الرائحة، رائحة تفسخ السلطة والمجتمع تزكم الانوف قبل الاحتلال،
لكن أحداً لم يكن يشم،
مجتمع بلا ثقافة نقدية،
ولا تقاليد ثقافية رصينة،
ولا نخبة فكرية تشم الخطر قبل وقوعه،
ماذا يتوقع منه؟
ما هو الجديد اليوم لكي نقول تغيرنا؟
القتل والاغتصاب وقطع الرؤوس ومسح المدن والرعب؟
كل ذلك كان قبل الاحتلال سراً وعلناً،
لكنه صار اليوم تحت الشمس،
المجتمع المنخور والخائف،
يُكبس كما يُكبس الدجاج،
وتُمارس معه كل أنواع المشاريع،
من القتل الى التقسيم،
الى صراعات مسلحة تتشظى كل يوم،
وهو يبحث في المكان الخطأ ويطرح السؤال الخطأ،
ويُقدم ذريعة للقتلة باستمرار القتل.
الثقافة المشهدية والتلقين العقائدي الطويل لأجيال،
خلق التصور الساذج ان المأزق يبدأ من الانفجارات والحرائق والجثث،
لكن المجتمعات الرصينة لا تنتقل فجأة من حالة السلم الأهلي،
الى الصراع الأهلي في دقائق الا اذا الغينا العقل وتجارب التاريخ.
ثقافة الشعار والجدار والبرنامج العام سيطرت على عقول أجيال:
لا أحد يرى الظلال الخفية والانهيار السري.
مذابح رواندى بين الهوتو والتوتسي أذهلت علماء النفس والاجتماع:
كيف يتحول الجار الى قاتل جاره في لحظات؟
خارج لغة السياسة، النار تحت الرماد،
والحقد المدفون في انتظار انهيار النظام العام.
صناعة قاتل واحد تحتاج الى سنوات من الاعداد النفسي وعقلية الثأر والتربية الطويلة،
فكيف خرج هؤلاء القتلة في المساء بعد أن كانوا في الصباح جيراناً وأصدقاءً وشوارع هادئة؟
هذا المأزق العراقي ـــ والمأزق ليس مشكلة ـــ لأنه دائري تكراري ولا مخرج منه، قديم،
وكانت السلطة الدكتاتورية تقود المجتمع نحو الانهيار،
وكل ما في الأمر ان الاحتلال رفع الغطاء عن المكبوت والمنسي والمختفي من المشاعر،
ومن نزعات الانتقام ومن ذهنية الثأر،
وغذى مشاعر الانتقام وأيقظ المكبوتات والمخلوقات المهانة بلا مشروع حقيقي للتغيير المتدرج والمنظم،
بل على العكس أشعل النار في التبن الداخلي المكبوس في الاعماق،
ولعب على الحساسيات النائمة.
نحن نرى الخراب في المؤسسات والمدن والطبيعة والشوارع،
لأنه مرئي وواضح وعلني،
لكن هذا الخراب مرآة لمخلوقات بشرية صارت حطاماً على مراحل،
ولأن الحطام عام،
ورائحة التفسخ في كل مكان،
فلم يعد من يرى أو يشم،
لأن الذات المصابة الجريحة ترى الحياة من خلال العطب:
كيف يكون لون النظارات،
نرى لون الأشياء.
ان ما يجري الان هو محاولات ترقيع الجثة وليس دفنها والخطاب المعارض شريك في الترقيع
لأنه غارق في الشعارات والنصائح في حين المأزق في مكان آخر .