مرقد مقدس ليساري راحل : قصة قصيرة

مرقد مقدس ليساري راحل : قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم

لشدة دهشتي لرؤيته إياه حيا يُرزق ، وهو يتقدم نحوي بقامته المديدة ــ و كعادته الدائمة مع بقية أصدقائه أيضا ــ مرّحبا بهم ، عندما يلتقي معهم في كل لقاء يحدث بعد نهاية الأسبوع ، حريصا على أن يتقدم نحوهم بأحضان وقبلات مع ضحكة مشرقة ، لا تفارق محياه ابدا ، مصحوبا بحس الطرافة العفوي ودائم الحضور بداهة لإطلاق قهقهته لأبسط نكتة أو دعابة يجدها سببا للضحك البهيج ..

بينما أثناء ذلك ، خطر على بالي أنه سبق لي إن شاهدتُ مراسيم دفنه في وقت اشتداد وانتشار موجات كوفيد التي خطفته بمكيدة غادرة احزنتنا حقا ، حتى لم نستطع تصديق فكرة رحيله المباغت والصاعق لنا جميعا ، إذ أنه كان لوحده ، ومن خلال شخصه الطريف ، عبارة عن جمهور رائع واحتفالي مرح ، بحكم حضوره القوي والمميزالبارز، مصحوبا بمحبة الجميع له .. أتذكر جيدا إننا قد دفناه بالفعل ، بقلوب متألمة ومشاعر ممضة و حزينة بحق وحقيقة ، رافضين في الوقت نفسه تصديق واقعة و حقيقة رحيله المفاجئ …
وها هو الآن ينطلق نحوي مرّحبا ، محيّيا ، بذلك الدفء الأخوي الصادق والحار المعهود ، قادما على مهل وبخطوات بطيئة مع ظل طويل لقامته المديدة ، منبثقا فجأة من وسط ظلال يعمها ظلام يخيم كثيفا خلف أشجار شاهقة وأدغال عالية ، تحيطنا عن قرب مثل سياج معتم ..

ففكرت لأداري دهشتي : ” ربما ذهب ليتبول خلف الأشجار ” بعد أن احتسى عدة علب من بيرة باردة في ذلك القيظ الصيفي الشديد ، الذي لم تهدئه نسمات منعشة آتية من جهة النهر “..

فبادلته الاحضان والترحيب الحار بحضوره الطيب و المفرح ــ

ـــ يا أهلا بك ، ومرحبا بعودتك الميمونة ! .. تصور كنا على وشك أن نُشيد لك ضريحا أو مرقدا نغطيه ببطانة من قماش أخضر مع شاهدة تحتوي الكلمات التالية :

ــ هنا يرقد اليساري المخضرم والمكافح ” المقدس ” فلان بن علتان ” !.. و ليس هذا فقط ، إنما نضعًُ فوق رأسك عمامة سوداء شامخة ، ما رأيك في ذلك ..لأن ….

ولكنه لم يدعني أكمل ، إذ أخذ يقهقه بشدة و بقهقهات طويلة على عادته عندما يسمع نكتة ما ، و على نحو كأنما انتابته نوبة ضحك هستيرية في هذه المرة ، وكان يسألني أثناء ذلك وبين قهقهة و أخرى متقطعة لالتقاط الأنفاس مشيرا إلى نفسه بسبابته :

ــ هاي قوية ! .. أنا الرجل المقدس ولابس عمامة سوداء هههههه ؟. هل معقول ..ههههههه …فيا له من مشهد سوريالي عجيب بالنسبة لي ! …

ــ نعم معقول .. فبعض مِمَن يحبونك بقوة من أصدقائك ” الخاصين ” ، يريدون أن يجعلوا منك رجلا مقدسا ، وعلى طريقتهم الخاصة ، طبعا ، وكلما هناك ، من شدة محبتهم لك ليس إلا ..

أخذ يقهقه مرة أخرى ، إذ إن فكرة جعل منه شخصا مقدسا وجدها طريفة ومثيرة للضحك فعلا ..ثم فجأة نظر إلي بجدية وانتباه وهو يقول بعدما غابت آخر بقايا الضحكة العميقة عن ملامح وجهه الودية :

ـــ لحظة !.. ربما أنت محق ..فأنا سمعتُ مؤخرا حركات أقدام و أصوات كثيرة حول قبري ، كانت تحدث بين فترة وأخرى ..ولكن لا ، لا ــ مرة أخرى انطلق بقهقهة طويلة و عميقة :

ـــ أ أنا رجل مقدس ؟ .. هل حقا يريدون تقديسي ؟..

ثم هدأ قليلا حتى اختفت نوبة الضحك نهائيا عن أساريره المرحة لتحل محلها الجدية والرصانة الشديدة ، ليضيف بعد تفكير قصير :

ـــ كل شيء أقبله منهم و بكل ممنونية وحب وامتنان كبيرعلى وفائهم لي ، ما عدا أن يجعلوا مني رجلا مقدسا ، حتى لا يبدو الأمر كأنما يريدون استثمار موتي سياسيا ، لا ..لا .. هذا أمر غير مقبول .. ثم لست أنا وحدي غادرتُ إنما هناك غيري من بعض أصدقائنا الغابرين ، فهم أيضا يستحقون التفكير بهم وتذكّرهم بين حين و آخر ، أسوة بيَّ أن تتطلب الأمر حقا ..

ثم صافحني بحرارة منصرفا بعجالة نحو الأشجار التي خيم عليها ظلام دامس أكثر كثافة ، ليختفي هناك حتى غياب آخر مشهد لظله الطويل ، وكنتُ على وشك أن أنطلق في أعقابه طالبا منه ليعود حتى نكمل السهرة ، ولكن عبثا ، إذ شعرت بنفسي مشلولا و عاجزا عن الحركة تماما ، لأستيقظ بعد لحظات على أصواتي الصارخة احتجاجا على عجزي في الحركة والنهوض بغية اللحاق به ومنعه من العودة إلى قبره والبقاء في عالم الأموات و إلى الأبد ..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here