(اسبوع القبانجي) ذكرى مرور ثلث قرن على رحيل الفنان المؤمن !. ح2

(اسبوع القبانجي) ذكرى مرور ثلث قرن على رحيل الفنان المؤمن !.

بقلم د. رضا العطار ح2

كان من دواعي سروري ان اكون مشاركا في حفلة زواج النجل الارشد لزميل لي في العمل اقيمت في داره في منطقة الجادرية ببغداد. وقد تلاحقت في خاطري افكار مفرحة اورثتني ارتياحا كبيرا، كان ذلك عام 1970

وعندما وصلت دار الصديق استقبلني بحفاوة بالغة ، ثم اشيرعلي بأتجاه صالة الجلوس، كان عدد الضيوف كبيرا وعلائم الفرح تموج في محياهم وقد ابهجهم خبر قدوم القبانجي بصحبة فرقته الموسيقية، فازدادوا فرحا.

وبعد لحظات ظهر الاستاذ، باسم الثغر محييا جمع الحضور تحية محب لأهله.

وبعد تبادل العبارات الاجتماعية المألوفة، ساد الهدوء تدريجيا، واسُتهل بالغناء.

كان صوت الأداء عذبا رخيما، يموج بعبق المشاعر الجياشة وقد انسابت انغامه الشجية الى النفوس، ملهبة فيها جذوة من الغبطة والانشراح. فتعالت الأصوات بالاستحسان طالبين الاعادة . دهشت ان اصدق ان الفرح يكون معديا يجعل الانسان مبتهجا لهذا الحد.

.

وعندما انتهى المطرب من الفاصل الاول للغناء، ناشده احد الحضور ان يسمعنا مقام الحكيمي، فرد عليه الاستاذ قائلا : حاضر! بس انطيني مهلة حتى اخلص ماعون فاصولتي الخضرة قبل ما تبرد ! ضحك الحضور مستلطفا.

وعندما حان الوقت، صدح القبانجي بصوته الجهوري المعهود بالابيات التالية :

سلام على دار السلام جزيلُ * * * وعُتبى على ان العتاب طويلُ

أبغداد لا اهوى سواك مدينة * * * ومالي عن ام العراق بديلُ

حنانيك ما هذا الجفا ولم يكن * * * ليصرف قلبي عن هواك عذولُ

لقد اهاج هذا النظم مشاعر الشوق والحنين عند جمع الحضور، هزت مواجعهم، ذكرتهم بالعراق الوطن، ومشاعر الشوق والحنين عندهم مشاعر حراقة، وخواطر الماضي لديهم عزيزة، ذكرتهم بدفئ العلاقات الاجتماعية الحميمة، يعتزون بها، يفوح منها عطر الصفاء والمحبة ورنين المقاصد الانسانية النبيلة .

لقد لمس المتسامرون في شخصية الفنان محمد القبانجي روح البساطة دون تكلف جعلتهم يشعرون انهم قريبين منه. وان الرجل يبادلهم بفيض من العواطف الكريمة

وفي مجرى برنامج السهرة، ناشد احد المستمعين الاستاذ القبانجي ان يسمعنا مقام اللامي لكن الاستاذ لم يستجب الى طلبه قائلا له: ان مقام اللامي مقام توجع وحزن ونحن الليلة في حفلة فرح وانا من ذلك على يقين.

وهنا استدرك الموضوع كاتب السطور و قال للاستاذ، طالما لم تتاح لنا فرصة الاستماع لهذا المقام، فلا بأس لو اخبرتنا حضرتك بتفاصيل قصة هذا المقام وجميعنا يعلم بان مقام اللامي هو من ابتكارك.

اجاب القبانجي قائلا : عندما كنت في مؤتمر الموسيقيين العرب في القاهرة عام 1933، تلقيت من شركة كرامافون الألمانية دعوة لزيارة المانيا لتسجيل بعض الاسطوانات، .

وبعد وصولي الى المانيا بيومين، وصلني خبر وفاة والدي، فصعقت واصبت بالدوار وبدأت اصرخ على فوري:

علام الدهر شتتنا وطرنه * * * عكب ذاك الطرب بالهم وطرنا

الف ياحيف ما كضينه وطرنا * * * ليالي اللي مضت ما تعود ليً

لقد تأثر اصحاب الفرقة الموسيقية لما اصاب القبانجي من فاجعة، فانهالوا يعزونه على بلواه، و توقفوا عن العزف، متضرعين بان اللحن المرتجل جديد عليهم، وأضافوا:

اننا نبشرك يا استاذ، فقد ابتكرت لحنا جديدا. فقلت لهم : طالما الحظ ابتسم، اذن دعونا نضع له اسما، وتم الاتفاق ان ندعوه مقام اللامي. وعندما عدت الى بغداد غنيته في الاذاعة العراقية.

يخبرنا تاريخ الفن بان المقام العراقي ظهر اول مرة في العصر العباسي في بغداد زمن الخليفة ابو جعفر المنصور، ولهذا سُمي المقام الاول المغنى بمقام المنصوري.

فسألت الاستاذ رأيه بالمقام المنصوري، فأجاب: جميل جدا ! قلت: إذا كان الامر كذلك، فلماذا لا يغنى في الاذاعة العراقية ؟ اجاب الاستاذ : كون ان لحنه فارسي.

وعند الانتهاء من السهرة ومغادرة الضيوف، شبت في نفسي رغبة في الجلوس مع القبانجي على الديوان نشدادا لأحتساء قدح من الشاي والحديث معه في عالم الفن، وقلت :

لقد انستنا واطربتنا يا استاذ فلك الشكر الجزيل، واضفت : عظيمة هي الجهود التي بذلتها حضرتك في سبيل الارتقاء بالمقام العراقي حتى بلغت به مستوى الطموح، فدخلت دنيا الفن من اوسع ابوابه ! فنحن فرحين بخلودك الفني الرائع ـ ـ فقد غدوت بفضل انجازاتك الرائعة وعطائك الجليل زينة الوطن.

وهنا لاحظت ان قسمات وجه القبانجي بدأ يعتلج كمن اعترته فكرة مضيئة، فقال : شكرا دكتورعلى هذا الاطراء، فقد ملئت شعاب نفسي فخرا، بيد اني غير مكتفيا بهذا الخلود الدنيوي كما تفضلت به، انما ابغي الخلود الأيماني كذلك، الذي سيظل بعد موتي اجلً خواطري شأنا،

لذا قررت بناء جامع اسلامي في منطقة الحارثية ببغداد يحمل اسمي !

يرى كاتب السطور ان قرارا من هذا المعيار ما كان يخطر على بال القبانجي لو لم يكن الأيمان الديني القويم راسخا في عقيدته اصلا.

وفعلا بدأ القبانجي ببناء الجامع في السنة نفسها، لكن في ابهى موقع في منطقة الحارثية مشرفا على الشارع العام، كنت احد المدعوين في حفلة الافتتاح . . . كان حشد المحتفلين كبيرا، كانت نسبة المثقفين فيها كثيفا. كان ذلك النهار سجيا مشرقا ومضيئا.

اعتبر الهيكل العام للجامع تحفة فنية، يتجلى بالمهابة والعظمة، كان منظره الخارجي جميلا وجذابا، يلف جوانبه الاربعة هندسة معمارية رائعة .

اما في الداخل فقد وشحت جدرانه بأيات من القرآن الكريم مزدانة بالخط الكوفي البديع

كان الجامع في متوسط الحجم، يتسع لجموع المؤمنيين لأداء فريضة صلاة الجمعة.

وقد تُوج الجامع بالقبة والمنارة، وهما الشعار الاسلامي الدال على تلهف الانسان المسلم للتقرب الى ربه.

ان وجود المنارة في ارتفاعها الشاهق قد سهًل سماع الأذان الى مسافات بعيدة.

اما خصائص القبة فشملت انارة الفضاء الداخلي للجامع عبر نوافذها الدائرية خلال ساعات النهار، الى جانب طرحها للهواء الساخن خارجا، اما في الليل، فتقوم هذه النوافذ بتنظيم التهوية الصحية، تزود جو الجامع بالهواء الرطب.

وقد كُسيت كل من المنارة والقبة للجامع بالكاشي الشذري اللماع، يمازج اشعة الشمس الساطعة، يجتذب اليه قلوب المؤمنين.

ان تواجد الانسان المسلم داخل فضاء الجامع بقصد اداء الصلاة والعبادة، يستبان قبل كل شيء الى صفاء النية والايمان الصادق. فمجرد مكوثه في هذا المكان المقدس لبعض الوقت متأملا خاشعا، يجتاز كيانه، يروضه، يجعله يشعر انه قريب الى خالقه. اما اذا كانت نفسه تواقة الى الكمال، متجردا من الادران شعر انه يتسامى ليغدو انسانا احسن !.

.وقد تم افتتاح جامع القبانجي تحت اشراف وزير الاوقاف لذلك العام.

الدكتور رضا العطار

واشنطن في 2023

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here