من قتل الشاعر عبد الوهاب البياتي؟

حمزة الحسن

هاجس الموت سمّاً تكرر كثيراً
في قصائد وحوارات الشاعر عبد الوهاب البياتي:
” قالت:
ستموت غداً مسموماً في المنفى،
أو مذبوحاً بسكين صديق”.
الموت سماً، بتعبير البياتي نفسه، في آخر كتاب له
مدن و رجال ومتاهات الصادر عام 1999 عام وفاته:
“ظاهرة ليست جديدة في الأدب العربي،
أبو نؤاس، المعري، إبن الرومي ،
أو قتلاً المتنبي، بشار بن برد، إبن المعتز”
و طرفة بن العبد…الخ.
في النظام السابق قُتل الشاعر شاذل طاقة،
والشاعر شفيق الكمالي والشاعر عبد المحسن عقراوي
والقائمة طويلة وبالسم أيضاً.
في كتاب الشاعر أسعد الجبوري:
” بريد السماء الإفتراضي” حوار إفتراضي
مع الشاعر البياتي،
وفيه تكرار لقضية الموت سماً،
وبلا شك الشاعر الجبوري لا يتوهم أو يتخيل فقط
بل وضع معلوماته في إطار التخيل،
على قول سارتر:
” سأقول الحقيقة عن طريق الخيال”،
لأن جواب البياتي الافتراضي تضمن بعض الحقائق
التي لا شك تدور في عقل الجبوري.
” أنا متُ مسموماً ومسروقاً في منزلي الدمشقي،
فقد كان سهلاً على شخص مرسلاً من قبل أجهزة الدكتاتور،
العراقي التسلل لبيتي”.
” لكن لم يتحدث أحد عن الاغتيال.
فكيف بلغتك العقرب في بلاد الشام لتقتلك بسمها؟
هل للبياتي أن يقول شيئاً
عن موته في تلك اللحظة؟”
” لقد بلغتني أكثر من اشارة من برزان التكريتي من جنيف،
بأن وجودي خارج العراق إنما بات يوسع من دائرة
الكتاب والأدباء المعارضين لنظام صدام في الخارج،
لذا طلب مني أن أشحن جسدي قبل حقائبي الى بغداد،
لكني لم أعر لرغبته إهتماماً.
لذلك قرر أن يرسل العقرب لقتلي في دمشق.
كان صيدي سهل المنال في تلك الشقة المحروسة بالخمر
والليل والوحدة وذاك الصديق السمّار الذي سرق كل
مدخراتي من الأموال من دون أن يدقق أحدُ بالجريمتين
على حد سواء”.
من هو سارق مدخرات البياتي؟
كان هاجس البياتي في انتظار الصديق القاتل ليس نتاج
فوبيا القتل وإلا توقعه من غير صديق،
هناك صورة محددة في ذهن الشاعر للقاتل،
وهذا الصديق كما توقع هو لص والقتل بالسم،
فكيف حدث ذلك؟
ومتى ولماذا وتحت أي ظرف إرتبط البياتي
بصديق لص وعقرب سم؟
صورة من كانت في خياله؟
عام 2002 زرت عمان وقمت بتحقيق مجهري،
ثم سافرت الى دمشق.
في مهنة الروائي جانب بوليسي خاصة تاريخ البياتي ملخص لتاريخ العراق
والتحقيق في هذه الجريمة سيضيء الجوانب المعتمة والمسكوت عنها والغاطس.
لقد حقق الروائي خوسيه لويس بجريمة مقتل
الشاعر الاسباني لوركا 1936 بل قابل الشهود والقتلة
وعثر على وثائق،
وكانت النتيجة رواية مذهلة:
” هيجان: محاكمة وقتل لوركا”.
في عامه الأخير 1999 تحول هاجس الموت بالسم عند البياتي
الى كابوس حتى في آخر كتاب له صدر قبل وفاته بشهور:
” مدن ورجال ومتاهات” تحدث في الفصل الأول منه:
أبو تمام في مدينة الشمس
عن قتل الشعراء بالسم:
” على أيدي الغوغاء والشويعريين
والمأجورين لبعض الحكام”.
ترك لنا البياتي خريطة دقيقة لتتبع القاتل ومطاردته،
بعد أن حدد ملامحه في كتابه الأخير وفي غيره وعلينا فك الشفرات
أو نستعين بــ دان براون مؤلف شفرة دافنشي:
صديق سمّار ــ لص ــ قاتل ــ شويعر مأجور،
حاول فضح قاتله لكن بعد فوات الأوان،
لقد إنطلق السم وتم قنصه من خلال لص
قريب منه.
ماذا كان يفعل هذا اللص في منزل البياتي؟
وكيف عرف أنه لص من دون أن تكون له سوابق؟
وبلا شك لهذا القاتل علاقة ما بالشعر،
وإلا كيف إقترب من البياتي الانتقائي والنخبوي في علاقاته؟
تم إصطياد الطائر الحذر من منقاره:
الشعر التمردي والطعام والسم،
هي الثلاثية القاتلة لكبار الشعراء العرب فكتب بوضوح تام:
” ستموت غداً مسموماً
في المنفى أو مذبوحاً بسكين صديق”.
ليس كل لص يكون قاتلاً،
لكننا هنا أمام لص متهتك ومن دون شك قبض الثمن.
إذن هو يعرفه ويواجهه كل يوم،
كيف يعيش شاعر في صداقة قاتله؟
في 3 آب 1999 كان الشاعر البياتي يجلس في الشرفة
في دمشق منتشياً من القمر الدمشقي،
لكنه على غير توقع شعر بضباب أزرق عميق،
ونام كطفل في غابة ولم يفق أبداً،
وعثرت عليه مدبرة المنزل ميتاً فوق الكرسي الهزاز،
في الشرفة بلا أي مرض أو حادث،
ودفن حسب وصيته في مقبرة إبن عربي.
الدكتورة ميسون البياتي إبنة شقيق الشاعر
كتبت مقالاً بعنوان:
” هل مات الشاعر عبد الوهاب البياتي مسموماً؟”
لم يعلق أحد ولم يهتم.
كيف تطابقت توقعات الجبوري مع ميسلون
مع هواجس البياتي نفسه؟
في مقال لـــ ميسون البياتي عن بابلو نيرودا عودة لموضوع القتل بالسم .
كتبت تقول :
(عام 1973 تمت الإطاحه بحكم سلفادور ألليندي وتسلم بينوتشيه السلطه . بابلو نيرودا كان يعاني من سرطان البروستات فقرر زيارة الطبيب قبل الهرب فقام الطبيب بإعطائه جرعة سامه في المعده , حين عاد الى البيت جاءت الشرطه لتعتقله فصرخ فيهم : قفوا .. لن تجدوا في هذا المكان ما هو خطر عليكم غير الشعر . توفي بعد 12 يوم من التسمم والإعتقال ورفض الحاكم الجديد بينوتشيه إجراء تشييع عام له لكن الناس سدّت الشوارع ماشية خلف نعشه الى المقبره).
(عام 1990 تم فتح قبر بابلو نيردوا لفحص الجثه وفي العام 2013 صدر قرار المحكمه أنه مات مسموماً وأن قاتله يدعى ( ميشيل تاونلي ) الذي له سوابق في قتل أشخاص بنفس الطريقه) .
لم يفارق عبد الوهاب البياتي هاجس الموت سماً،
بل كان في حالة إنتظار،
وهي أقسى من الموت:
تجلس في إنتظار قاتلك الذي تأخر.
في قصيدة البياتي” محنة أبي العلاء المعري ” الذي مات
هو الآخر مسموماً يقول:
” شربت من خمر الأمير،
ورأيتُ في نهار ليله النجوم،
أكلت من طعامه المسموم”.
مات الشاعر عبد الوهاب البياتي مسموماً،
لكن ما لا يعرفه الشاعر أن الجريمة لم تحدث
في دمشق بل في عمان،
وعندما بدأ سم العقرب المتحكم بمدته يسري في جسده بطيئاً،
حزم حقائبه لكي يموت في لحظة بهجة بالقمر
الدمشقي من خلف حقول الغوطة،
لأن وصيته وأمنيته أن يدفن قرب إبن عربي
صاحبه الصوفي،
وكما توقع في حواره الافتراضي،
لم يحقق أحد في الجريمتين،
لكن هذا الملف الخطر لن يغلق،
وسيتم فتحه يوما وفحص جثة الشاعر.
من هو الصديق السمّار الذي سرق ماله،
واللص القاتل الذي دس له السم البطيء
لكي يموت خارج مسرح الجريمة
ليس في عمان بل في دمشق؟.
البياتي يعرفه بالاسم والصورة،
لان اللغز الذي تركه البياتي في انه حدد ملامح قاتله بدقة ، لص ومن الشويعريين، وسمّار سرق مدخراته ، ومأجور، أي انه يرى وجه قاتله وينتظره كما في قصة قصيرة لارنست همنغواي بعنوان ” القتلة” حيث ينتظر شخص قتلته ويترك لهم الباب نصف مغتوح وسئم من الانتظار.
لماذا إستثنى البياتي أن يكون قاتله رجل مخابرات من خارج الأدب ؟
ليس من المستغرب أن يكون القاتل قد كتب
مرثية في رثاء القتيل:
كل تاريخ العراق يتلخص في هذه
المفارقة المرعبة:
قاتل يرثي قتيله.
هذه جريمة مروعة لا يجب التستر عليها
وهي لا تقل عن جريمة مقتل الشاعر الاسباني لوركا
التي لم تخمد نيرانها يوماً من عام 1936.
يجب فحص رفاة البياتي يوماً والاهم فحص الحقائق.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here