الرجل الغامض المجنّح : قصة قصيرة

الرجل الغامض المجنّح : قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم

وضع الكتاب ، جانبا ، متطلعا عبر موجات نعاسه الضاغطة على جفنيه المثقلتين ، فتطلع إلى عقارب الساعة التي كانت تسعى متثاقلة لاهثة ، كأحصنة عرجاء منهكة ، لتدخل سديم منتصف الليل البهيم ، شاعرا بحرقة عينيه متعبتين من شدة القراءة والإرهاق ، كمن يتأرجح مندفعا على متن سفينة مهتزة في دوامة عاصفة ، تخطفه مشاهد مختلطة بين ضباب ينبض بوميض تتخلله بروق مرتعشة وبين ظلال معتمة لا تني تتحول إلى أشباح مترصدة كأنما بنية مهددة ، ولكن لاستغرابه الشديد سرعان ما سمع و كأن جرس الباب أخذ يبعث رنينا خافتا ، وبتواصل عنيد وملّح ، وجد نفسه ينهض بدون استغراب أو دهشة من رنين الجرس الطارئ ، متقدما نحو الباب ، سائلا بصوت متهدج أرهقه النعاس والإرهاق ..

ــ من يرن رجاء ؟ !..

جاءه الصوت بنبرة عادية وطبيعية جدا ، مثلما يفعل ضيف مألوف عند صاحب البيت :

ــ هل نسيتني ؟..أنا ظلك الآخر! .. دائنك الأبدي ..ههه ..

ــ ومن أنت حقا ؟ ..

أجاب الصوت بنبرة بدا عليها في هذه المرة شيء من تشديد طفيف كأنما تأكيدا على حق له في ذلك ..

ــ طيب إذن .. جئتُ لأرتب لك سفرتك الأخيرة .. فضلا عن أنه قد آن الأوان لتسديد دينك الذي على عاتقك يا صاحبي العتيد .. ولكن بدون امتعاض و تذمر أو استياء ..

ــ أهذا أنت ؟.. لا بأس ــ وهو يفتح البيت على مصراعيه ــ أدخل ..كنتُ أنتظرك منذ وقت مضى .. شكرا على المهلة .. بالأخص على منحي وقتا إضافيا و طويلا بعض الشيء ..

دخل الضيف الطارئ بقامته المديدة إلى حد كان عليه أن ينحني قليلا لكي لا يصطدم رأسه بالجانب الأعلى من الباب ، كانت ملابسه كلها بيضاء ناصعة وحتى القبعة و الحذاء أيضا ! ، ولكن ما أثار دهشته أنه لاحظ ، أو هكذا بدا له ، بأن ثمة أجنحة قد نبتت للضيف القادم ولكنه ــ لسبب من الأسباب ــ قد طواها ربما حتى لا تعرقل حركاته ومشيته عموما ، كان يبدو على هيئة مّلك مجنّح ــ من تلك الملائكة التي سبق له أن رأى صورها في كتب دينية ومجلات ملونة ..

وأردف الضيف كأنما توضيحا مفصلا لغاية لزيارته :

ــ نعم .. كلما كنتُ أنوي زيارتك واصطحابك معي إلى الضفة الأخرى ، كنتًُ أجدك في صحة جيدة وعافية ممتازة وشهية مفتوحة على مباهج الحياة ، فعندها كنتُ أقول بيني و بين نفسي لماذا لا امنحه وقتا إضافيا ، حتى يستمتع بلحظاته الجميلة ، طالما يعتني بصحته ويقدر وقته على نحو جيد و جميل و مبهج ..

رد هو بلهجة ممتن وراضِ :

ــ شكرا للمهلة الكريمة والطيبة حقا ! و بالأخص لهذه الهدية الثمينة من أوقات غالية ممنوحة من قبلك ، لهذا أيضا كنتُ بدوري قد قدرتُ الأمر ، لدرجة لم أضيّع حتى ولا لحظة واحدة هباء منثورا ، فسعيتُ أن أبهج تجليات روحي ، سوية مع إشباع رغبات جسدي أيضا ..

بعد صمت قصير أضاف :

ـــ حتى يمكنني القول أنني ارتويت من ينابيع الحياة العذبة ..حتى شبعتُ حقا من كل أطايبها ومباهجها المتعددة .. فليست لديّ رغبة إلى مزيد مكرر .. فبإمكانك أن تأخذني معك وتمضي ، في أي وقت تشاء .. ولكن قبل ذلك يجب أن أضّيفك بمشروب ما ، فماذا تفضل ؟ ..

رد الضيف المجنح متحمسا للفكرة :

ـ بطيبة خاطر سأحتسي مرتشفا قدحا من نبيذ أن كان متوفرا لديك ..

ـــ آه .. نبيذ ؟..طبعا .. عندي نبيذ معتق جدا ، حصلتُ عليه هدية منذ سنوات طويلة من عشيقة سابقة حنونة وشهمة لا زالت تهتم بي حتى الآن ، أهدتها لي بمناسبة عيد ميلادي ..هههه .. عيد ميلادي ؟.. كأنما أردتُ ادخاره لهذه المناسبة الاستثنائية والخاصة جدا احتفاء بالرحيل إلى الضفة الأخرى ..

علق الضيف بإطراء و ثناء صادقين بلغ حد الحماس :

ــ أرفع لك قبعتي يا صديقي لكونك تحتفل بيوم رحيلك ، بينما بعض آخر ــ عادة ــ لشد ما يحزن ويكدر ..

بعد وهلة من صمت أضاف الضيف بابتسامة بدت لطيفة و أخوية بعض الشيء :

ــ أرجوك ..ارتاح في فراشك .. أراك مرهقا و ناعسا تماما .. ما رأيك لو أنا جهزت كؤوس النبيذ والمقبلات أيضا .. لا تتحرج .. أعرف أين توجد ! .. إذ أنا صاحبك القديم بل ظلك الآخر منذ أن ولدتَ وحتى الآن ..

رجع هو ليتمدد على فراشه بينما اختفى صاحب الملابس البيضاء في أحد أركان البيت ، وصاح من هناك في وسط قرقعة و رنين الكؤوس :

ــ حتما إنك مشتاق لأهلك و أخوانك وأصدقائك المقربين الذين سبقوك بالعبور إلى الضفة الأخرى..

رد هو متثائبا ، بصوت خدر لطيف ، كأنه بالكاد يغالب نعاسه للاستغراق عميقا في نوم طيب بأحلامه المدهشة :

ــ نعم أشعر باشتياق كبير لهم .. ليس هذا فقط ..إنما ..لا أحس بأي شيء يمكن أن يغويني أو يستهويني بالمكوث في هذه الضفة أكثر مما ينبغي ، فغدا كل شيء فارغا ، باهتا ، مملا ، تافها ، باردا ، ورثا جدا .. وفوق ذلك ، في وسط هذا الفقدان الهائل لقيمة الأشياء وجوهرها الأصيل ..

ثم تلى ذلك صمت من جديد ..سرعان ما تخللته أصوات قطرات صوت النبيذ وهي تتساقط منسكبة على قاع الكأس ثم تتماوج برغوتها المكثفة ، متدّومة ، مهشمة بجدرانها البلورية الآخذة بالامتلاء ، مع شعاعات خاطفة ، مصحوبة بنكهة نفاذة عبقة ..

مع يد بقفزات بيضاء ناصعة تقدم له الكأس بصوت خافت :

ـ تفضل أشرب أكسير الحياة ولو للمرة الأخيرة !..

ما أن تجرع النبيذ حتى آخر قطرة ، حتى شعر ، من خلال لحظات حميمة ، بصداع لذيذ وآسر يخطفه نحو لحظات مبهرة من ألوان وأضواء مشرقة ساطعة وامضة كألعاب نارية زاهية في كرنفالات أعياد جماعية.. ثم تعقب ذلك مشاهد محببة تحوي وجوه أحبائه و أصدقائه الحميمين ..مع أيد أخوية تلوّح له بحماس ومودة صادقة حقا ، بدون أي رياء أو نفاق .. بينما هو استمر مندفعا ، طائرا ، على كتف الضيف المجنّح صاحب الملابس البيضاء باستغراق بهيج ، قريبا من أفق الضفة الأخرى ..

حتى .. أخذ يتلاشى ، شيئا فشيئا ، في أبعد نقطة مضيئة ..

كما نيزك عندما يختفي متلاشيا في سديم غامض عميق ..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here