أستذكاراً ووفاء … الكاتب والاعلامي الراحل يحيى عبد المجيد بابان (جيان)

خالد العلي / براغ

هاهنا، توقف المنفيّ، ومنذ أن صار حجرًا، فهو يعيش في وطنه.. / نيرودا أستذكاراً ووفاء …
تحل علينا في هذه الايام اربعينية االرفيق والصديق العزيز يحيى بابان (جيان) الذي غادرنا مساء السبت 2023.2.11 بعد تدهور حالته الصحية.. وقد ربطتنا لسنوات طوال علاقات طيبة ووثيقة، سياسية ووطنية واجتماعية، وكان الوطن الابرز في همومنا المشتركة.. ولعل التعبير الصادق للراحل العزيز عن بعض مواقفه الوطنية والانسانية والصداقية، جاء في رثائه لزميله ورفيقه، الاعلامي والسياسي حسين العامل، الذي غادرنا في رحلته الابدية، في براغ بتاريخ 2011.12.24 وجاء فيه: 
” تبادلنا الأسماء بألفة بعد تعارفنا للمرة الأولى عند مقهى أوروبا في ساحة فاسلافسكه ناميستي في براغ قبل 49 عاماً.. جمعتنا فيما بعد لقاءات وعشنا في مكان عمل مشترك مع أصدقاء ومعارف وزملاء صحافة، هنا في براغ، بيتنا، وفي وطننا لا تزال متاعبه حاضرة في لقاءاتنا، له العمر الطويل كما يقال عادة. وقد سألتني مرة، كم عمره؟— من ؟– هذا الوطن!— ضحكنا، كم عمره! .. 
كم هو قديم هذا الوطن الذي ننتمي إليه، ينتمي إليه معظم الجالسين هنا. أذكر أن “كريمر” – صموئيل نوح كريمر- كتب عن أن قصة الطوفان التي دونها كتاب التوراة، العبرانيون لم تكن أصيلة، إنما هي من مبتكرات الأساطير السومرية، وإقتبسها البابليون ووصفوها في صيغة “أسطورة الطوفان البابلية”. وفي الأسطورة أن الملك المتواضع (زيو سودرا) يخبره (أنكي- إله الماء) بقرار الآلهة المخيف ناصحاً له في بناء سفينة كبيرة لإنقاذ نفسه والأحياء حواليه. حدث هذا قبل نوح (التوراتي) وفي الصورة وصف للطوفان: — جميع العواصف القوية هاجمت — مجتمعة … وغمر الفيضان بعنف وجه الأرض.— وسألت: كل هذا في العراق؟. في العراق طبعاً. والأسطورة السومرية أثرياً هي أقدم من جميع الأديان البشرية، ويؤكد ذلك علماء الآثار والمؤرخون..
أذكر أنك لا تفوت فرصة في لقاءاتنا إلا وتسأل … ماذا عن أخبار الناس، معارفك، أخبار مدينتك، بيتك، براغ! هي بيتنا أيضاً نحن سكانها منذ عقود من السنين وحتى الآن، وتسأل أيضاً عن أخبار وطنك وأنت على كرسي نقال في سنواتك الأخيرة —- ومثلها أخبار الناس ما يؤذيهم ويتوقون إليه كنت تسأل عنها وأنت على سرير مستشفى في براغ قبل أسابيع من رحيلك، وتأسف للوضع غير الطبيعي، غير المعقول لحالة الناس في الوطن وحالة الوطن نفسه:- أزمة في الإقتصاد.- أزمة في الإعمار والتطور.- أزمة في السياسة والإدارة، أزمة في الفكر السياسي. – أزمة في الحفاظ على الوجود، تحتويها وتظهر فيها وعليها محاصصات أثنية، طائفية، عرقية وكأن الوطن – العراق القديم، الحديث، وناسه منسيون، محاصرون في رقعة الأرض ما بين النهرين.
..غير أن هذا السلوك يتصدى له وعلى مرّ التاريخ سلوك للانتماء إلى الناس، خير الناس، إلى الوطن – البيت- وفي هذا السلوك حافز ما غريزي من أجل البقاء للإنسان وللنوع الإنساني، ربما هو بإيحاء من تراث الأسطورة الأولى والحاجة إلى السفينة والمشاركة في بنائها للإنقاذ من الطوفان.
في سلوك الانتماء على عكس سلوك العداوة تصبح الدولة ذات مؤسسات قانونية وتشريعية منتخبة بحرية من السكان، ركاب هذه السفينة، وأن تسودها الديمقراطية والقانون في الإدارة والتسيير وللإنسان، لكل مواطن، حرية العمل وضمان الصحة والتعليم والأمن والتعبير دون تمييز عرقي، أثنيّ، طائفي أو جنسيّ، دولة للإنسان العراقي، لشعوب هذا البلد مسموعة الصوت تنبئ عن نفسها ووجودها للعالم.مرة أخرى أعود وأسأل… 
– هل أقول وداعا حسين!
الإنسان حيّ حين يخلف بيتاً..أبناءً.. أحفاداً.. وفي بيتك فيرا وياسمين وهونزو.. وأحفادك..
خلفت كتباً ترجمتها عن اللغة التشيكية إلى العربية، وأعمار الكتب، ومثلها المعرفة أطول من أعمار الإنسان والزعماء والسياسيين والدول وحتى أطول عمراً من المدن أحياناً…. 
أنت حيّ “…
————–
* انتهى ما كتبه جيان في رثائه، ولكن تبقى التساؤولات:
هل الاغتراب والغربة ، هو الاختيار الذاتي المحض الذي دفع الكثيرون للعيش خارج الوطن؟ أم أن الوطن لم يستوعب محبيه ؟ الاغتراب، يبدو، هو لعنة يعيشها العراقي، مجبرا بين الداخل والخارج، وتبقى الغربة داخل الوطن هي الاصعب بين الامرين، فرضها الطغاة على مر التاريخ البشري، ولا مزايدة هنا ولا تشنيع بين الغربتين. كلتاهما تبحثان عن الوطن الذي يسكن فينا . نعم انها الانشودة التي نعيشها والعذاب المر الملتصق بنا حتى تحول الوطن الى محطات تتنقل بنا في سيناريو مجاني في زحمة عربات الزمن المشوة !!!. 
لقد عبر جيان بشكل جميل عن مسوغات الغربة في أنتاجة الادبي، وعمل على الثوثيق الواقعي للاحداث بصياغة أدبية ممتعة وهذا التوثيق الادبي أشتمل ايضا على كثير من الاحداث التي راح بها العراق منذ العهد الملكي مرورا بثورة 14 تموز والانقلاب الفاشي في 8 شباط 1963 وغيرها ..
– ولد الكاتب والاعلامي ، يحيى عبد المجيد بابان ( جيان) في مدينة بغداد منطقة الصابونجية في 10/ ايار عام 1930.
– انخرط الفقيد وهو في عمر الشباب في النشاط الطلابي الوطني ببغداد، وفي سنوات الخمسينيات انضم الى الحزب الشيوعي، وتعرض للملاحقة والترهيب من قبل شرطة العهد الملكي الرجعي، فلجأ الى الخارج حيث أمضى شهورا طويلة متخفيا في البحرين، ثم عاد سرا الى الوطن ونشط ثقافيا قبل ثورة 14 تموز وبعدها.
– عام 1963 بعد الانقلاب الفاشي ، اضطر إلى مغادرة وطنه العراق الى تشيكوسلوفاكيا واستقر في مدينة براغ العاصمة ، وعمل محررا في القسم العربي للاذاعة التشيكوسلوفاكية. ولم يتوقف عن كتاباته الأدبية .
– متزوج من السيدة ( ياروسلافا بابانوفا) الدبلوماسية، سلوفاكية الاصل، وله منها ثلاثة أطفال ، ولد وبنتان: جيان ،عادلة ، وأنّــا .
– بدأ اهتمامة الادبي في سن مبكرة (مرحلة الدراسة الابتدائية والمتوسطة) واهتم بقراءة الرويات التي كان يجلبها لة والده ويتذكر بالدرجة الاساسية كتابات جرجيس زيدان وكيف كان يجتمع مع اقرانة من الطلبة في مرحلة المتوسطة ، ويرتجل سرد احداث ما قرأة من هذه الروايات.
– كان من ادباء جيل الخمسينيات المتميز ، وبدأ بنشر كتاباته في مجلة (الفنون) منذ منتصف الخمسينيات، وبعدها ظهرت قصصه القصيرة ومسرحياته على صفحاتها، وفي غيرها من المجلات والصحف المحلية.
– كتب عددا من القصص القصيرة خلال الفترة 1957-1958 قسم منها نشر في المجلات العراقية، وكذلك مجلة الاداب البيروتية، والقسم الاخر لم يتم نشرة لاسباب مالية وصعوبة في النشر. وبعد تموز 1958 نشر جيان الكثير من نتاجاته الأدبية في مجلتي (المثقف) و(الثقافة الجديدة) . ومن أهم قصصه القصيرة المنشورة فيهما (أعماق طيبة) و(حزمة القش) و(حافلة النقل) وغيرها، فضلا عما نشره في الصحافة المحلية الأخرى في المسرح والأدب والسياسة.
– على صعيد المسرح كتب (جيان) مجموعة من المسرحيات، ومنها ما حاز على ارقى التقيمات في المسابقات مثل مسرحية (المقاتلون) عن الجزائر التي فازت بالجائزة الاولى في مسابقة دار الاداب البيروتية التي كان يترأس تحريرها الاستاذ سهيل ادريس، ومثلت من قبل فرقة المسرح الحديث، البغدادية، ليوسف العاني.. وكذلك (الخبز المسموم) التي أخرجها قاسم حول وعرضت في التلفزيون العراقي يومها ، ونشرت في مجلة الاداب بيروت 1954 و( المنتفخون في البيت) مجلة فنون – بغداد 1957. و(الطاحونة) ومثلت عام 1957 وحازت على الجائزة الاولى في مسابقة نظمتها مجلة مصلحة السينما والمسرح وكان يتولى إدارتها آنذاك الفنان يوسف العاني. و(عودة للريف) التي نشرت في مجلة لمثقف العربي.
– صدرت لة مجموعة قصصية عن دار أمل الجديدة بدمشق بطبعتها الأولى 2015 تدون وقائع الأشهر الأخيرة من أيام الجمهورية الأولى (1958-1963 ).
– كما صدرت له عن دار ” الفارابي” في بيروت رواية ( دلمون) عام 2008 .
– وعن دار” المدى ” صدرت لة رواية أخرى (المرفأ وبغداد )عام 2017.
– له عدة كتابات صحفية وفنية وسينمائيه نشرت في صحف عديده .
مقتطفات عما كتب عن جيان:
*جاء في مقاله للكاتب عبدالله حبة عن رواية (دلمون) :
(( إن رواية « دلمون» التي أصدرتها دار « الفارابي» في بيروت تتضمن الكثير من وقائع السيرة الذاتية للكاتب. ويظهر فيها السلوك الذي ميز الكتاب الواقعيين العراقيين في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهي تعكس تطور مؤلفها ثقافياً لحد كبير بعد مغادرته لوطنه. علما إنها نشرت في الاعوام الأخيرة وفي المهجر حيث لا توجد أية قيود مفروضة على الكاتب العراقي من قبل الرقابة.. زد على ذلك إن الكاتب وجد خلال فترة المهجر مجالاً واسعاً لكي ينهل من الثقافة الاوروبية واكتسب الكثير منها، وبالاخص في النظر إلى الإبداع الأدبي . ولا يتحدث جيان في روايته عن “عبثية الحياة العراقية ” اليوم كما فعل مثلا احمد سعداوي في روايته “فرانكشتاين في بغداد” الحائزة على جائزة البوكر مؤخرا ، والتي سايرت « موضة» كتابة الروايات ذات المواضيع التاريخية والخيالية بغية اسقاطها على الواقع الحالي.. فقد اتبع جيان الاسلوب الواقعي الكلاسيكي في رسم العلاقة بين الشكل والمحتوى، وتقديم صورة للواقع في مجتمعه كما يراها. لقد كان هذا طريق جميع القصاصين العراقيين من جيل الخمسينيات والستينيات، ولم يبتعد جيان عنه، لأنه ينتمي إلى هذا الجيل. لكنه يعرض افكاره بإسلوب مبتكر يميزه عن الكتاب الآخرين. وتتضمن روايته عدة محاور أولها عرض الشخصيات وعلاقاتها بالبطل، وثانياً الأحداث في بلاد يعيش فيها منفيا، وثالثاً أفكاره الفلسفية التي تشغل حيزاً واسعاً في معالجته لموضوع حياة الانسان والموت وبؤس المنفيين والمهاجرين بحثا عن الرزق والموقف من المرأة. ويربط جيان بين موضوع النفي والاسطورة “.
” ان «جيان « يقدم لنا رواية ستأخذ بلا ريب مكانتها بين الاعمال الروائية العريقة المتميزة الى جانب اعمال غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي وعشرات الادباء العراقيين المغتربين الذين ظهروا في العقود الاخيرة من السنين ولكل واحد منهم دوره في تشكيل الرواية العراقية الحديثة. وعبثا ان يحاول البعض نسب اعمالهم الى «الادب المغترب» لكونها تتناول المواضيع العراقية الخالصة ، ولكن برؤية معمقة بحكم تنامي ثقافة الكاتب المغترب واتصاله بأدب البلاد التي يقطن فيها والاستفادة من منجزاته”
*ويكتب حنون مجيد بتاريخ 16/02/2012 تحت عنوان دلمــون .. الحــلم الــذي لـم يكــتمل”
” تسعى رواية ” دلمون” للقاص والروائي جيان / يحيى بابان الى إيقاظنا على الوقائع الحادة التي تصاحب الهجرة من الوطن الى بلد اخر والتي غالبا ما تكون خافية علينا نحن الذين لم نجرب ذلك. بل انها تكشف وبتفاصيل دقيقة ومثيرة معاناة المهاجر الذي يتسلل نحو حدود بلد اخر من دون وثيقة سفر رسمية . هذه المعاناة التي تظل تلازم المهاجر وتكثف قلقه وحيرته من قبل ان يجتاز حدود ذلك البلد حتى حلوله فيه، إذ هو غريب ومطارد من سلطتين، سلطة الخارج ممثلة بسلطة القانون التي من بعض ادواتها العقاب وسلطة الداخل التي هي سلطة الذات المعبأة بالتوجس والخوف.
وبقدر ما تراود المهاجرعادة من احلام وخيالات سعيدة او مُسعدة كونه ينفذ او في طريقه لأن ينفذ من عالم ضيق – يحاصر نفسه وجسده ولا يوفر له ادنى مستوى من مستويات العيش الكريم – الى عالم مغاير رحب وواسع يتمتع بـ”الحرية” ،تراوده في الان نفسه خيالات معتمة قد تتحول في لحظات الى كوابيس تؤول فيما بعد الى حالات تراجع ونكوص ، وهو ما صوره الروائي عبراحساس بطله وهو ما يزال قائماً في السفينة المتوجهة الى دلمون وقبل ان يحط رحاله هناك: “صحيح ان الاخرين سبقوه الى التعبير عن بهجتهم، وهو شأن طبيعي لجميع الناس، غير ان احساسه بالوحدة الان أشد ايلاماً” ومع ان دلمون وكما “مكتوب على الحجر، لا يفترس فيها الذئب الشاة” فان واقعها لم تتعين ملامحه الحقيقية للمهاجر الا حين وطأ ارضها وأقام زمناً عليها . إنه الامتحان الصعب والممارسة القاسية التي لا يقدم عليها إلاّ من كان مقهوراً على ارضه وبين ناسه”.
*وبتاريح 2015.4.24 كتب ‎جواد عبد الكاظم‎ :
” لقد تعرفت على (جيان) في أواخر الخمسينيات حين كنت أعمل في مجلة “الفنون” العراقية التي كانت تسمى سابقا ” السينما” …..الخ. ” وقد عملت مع الشاعر صادق الصائغ في جمع المواد لإصدار المجلة، حيث كان صادق يشرف على قضايا الأدب بينما أشرفت على قضايا الفن التشيكيلي والمسرح والسينما. وساعدنا د. صلاح خالص والفنان يوسف العاني كثيرا في إصدارها بشكلها الجديد وكنا نحصل على الدعم من تبرعات الأصدقاء. ويومذاك برزت فكرة إجراء مسابقة لأحسن قصة لنشرها في المجلة. وقد تلقينا مجموعة من القصص وشكلنا لجنة من الأدباء لاختيار أفضل قصة. وقد اتفق الجميع على أن قصة “نزوة” لـ(جيان) ستكون الفائزة في المسابقة. وقد نشرت القصة في المجلة وجاء كاتبها إلى مقر المجلة – في قبو كانت توجد فيه مطبعة الأمة في الحيدرخانة . . 
لقد جذبت انتباهي وزميلي صادق شخصية الكاتب الشاب. فهو هادئ ومتواضع وقليل الكلام ودمث الخلق ويحب الاستماع إلى الآخرين، ولكنه كان يقهقه بشكل عجيب. إنها قهقه طريفة وكأنها سيل من ماء ينسكب من قارورة بصدى خافت وساحر. وبعد ذلك توطدت أواصر الصداقة بيننا وقد شجعناه على مواصلة التعاون مع مجلتنا وطرحنا عليه أيضا فكرة كتابة مسرحية. وسرعان ما كتب مسرحيته ” المقاتلون” عن الثورة الجزائرية. وقد أُخرجت لاحقا من قبل فرقة المسرح الحديث وشاركت أنا شخصيا في أداء أحد الأدوار فيها”.
*و تحت عنوان “مواهب أسكتها عصف السياسة” كتب شكيب كاظم بتاريخ 2017.11.5 
“القاص والروائي العراقي المهاجر المقيم في العاصمة التشيكية (براغ) والمولود في بغداد عام 1930 والذي قرأت أولى قصصه في مجلة (المثقف) العراقية الرائدة، التي أصدرت في بغداد صيف عام 1958، وما لبثت أن عصفت بها الدكتاتورية الفاقدة لبوصلتها فأغلقتها، كتب (جيان) حوار قصصه شأنه شأن مجايليه من قصاصي خمسينات القرن العشرين، فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وأدمون صبري، كتبوا الحوار بالعامية البغدادية الموغلة في عاميتها، حتى وأنت نقرأ هذا الحوار، تحدث نفسك، ما أكثر هذه المفردات العامية التي طواها الدهر، وما عاد أحد يتحدث بها، وكأن اللهجات العراقية، تحاول نزع خواصها والإقتراب من العاميات الأخر، عاميات الجنوب والغربية وبغداد والموصل وغيرها.
لقد كتب قصاصو الخمسينات الحوار بالعامية، متأثرين بمناهج الواقعية الاشتراكية التي تحاول ان تكون أمينة في نقل خوالج الناس ولواعجهم والتي أراها أقرب إلى الفعل التسجيلي البعيد عن الإبداع، نلمس ذلك الحوار في قصص مجموعته التي أطلق عليها (جيان) واسمه الحقيقي (يحيى عبد المجيد بابان) عنوان (السنة الأخيرة) وهي مختارات مما كتبه من قصص قصيرة، وقد صدرت عن دار أمل الجديدة بدمشق بطبعتها الأولى 2015، واشتملت هذه المختارات على عشر قصص قصيرة، واضعين في الحسبان، أن قاصنا المبدع الرائد (جيان) من الكتاب المقلين جداً، حتى ليكاد يضارع مبدعنا الكبير الراحل محمود عبد الوهاب في قلة منتجه، غير ناسين الدكتور مالك المطلبي، السائر على النهج ذاته..
وكانت قصته الأخيرة التي حملت عنوان (من دفتر الصحفي) واسطة عقد هذه المجموعة الرائعة، التي تمثل خلاصة الخلاصة لما كتبه القاص (جيان) وهذه القصة التي وشح بعنوانها، مجموعته القصصية هذه. التي تدون وقائع الأشهر الأخيرة من أيام الجمهورية الأولى (1958-1963 ) وعلى وجه التحديد خريف سنة 1962، من خلال حيوات عديد الأدباء والشعراء والمثقفين العراقيين، وسهراتهم في أروقة مبنى إتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في منطقة العلوية ببغداد، حتى أنك تكاد تتعرف على الكثير منهم، إذ يورد (جيان) أسماء بعضهم: حسين مردان، وعبد المجيد الونداوي ونزار عباس وعلي الشوك وبلند الحيدري، فضلاً عن الأسماء الأولى لبعضهم مثل رشدي اللاثغ بالراء ، وهو الشاعر رشدي العامل (توفي 1990 ) وسعدي، وهو الشاعر المغترب سعدي يوسف، والصكار، أي الخطاط والشاعر محمد سعيد الصكار، وغانم، ونعرف من خلال استقرائنا للحياة الثقافية والسياسية في العراق أنه غانم حمدون (توفي (2017، وذاك الذي يسكن قريباً من مقهى البرازيلية، وهو لدى التدقيق. الروائي غائب طعمة فرمان (توفي (1990 الساكن في محلة المربعة المطلة على شارع الرشيد)).
* كما ينشر حمدي العطار بتاريخ 2018.5.15 تحت عنوان قصص جيان تعبق برائحة تراب الوطن: 
” (السنة الأخيرة) مختارات من القصص القصيرة تأليف القاص المغترب جيان – يحيى عبد المجيد بابان الصادر من دار (امل الجديدة – دمشق).. يقع الكتاب 167 صفحة ويضم عشر قصص قصيرة، على الرغم من أن القاص قد غادر العراق سنة 1963 بعد الانقلاب البعثي الدموي ولم تسنح له العودة إليه طيلة الوقت ، ألا ان مؤلفاته (رواية دلمون 2008 ) وكذلك مجموعته القصصية (السنة الاخيرة 2015) التي بين أيدينا تدل على أن الوطن (العراق).. لم يغادر مشاعر وأحاسيس الكاتب أبدا!.. المجموعة كتبت على فترات زمنية متعاقبة وقسم منها قديمة قد ترجع الى سنة 1959 وقصة «اللهيب» نموذجا،التي ستكون موضوع النقد..
لقد عبرت القصص عن حالات أنسانية ومعاناة الانسان البسيط المضطهد أجتماعيا والمستغل اقتصاديا والمقهور سياسيا،قصص جيان تحتاج الى قراءة شبه تداولية ،فالخيال عنده ليس وهما ونستطيع بعد أدراك الشكل النصي أن نصل الى معنى العميق لتلك القصص الذي يغلب عليها السرد الوصفي ،ان اسلوب الادب التجريبي الذي أتخذه القاص يتطلب أستكشاف أمكانيات النص التخيلي،وسنتاول قصة اللهيب نموذجا «كانت ريح ندية تحمل نفثة لتراب الحقول، بدت الأرض منبسطة كراحة يد، الهواء يرتجف شفافا رائقا في الأبعاد تبرز من خلاله قرى متناثرة عند خط الأفق» 
وفي سرد محكم يصور لنا القاص طبيعة الريف العراقي (الناصرية) ومثلما يوجد الجمال الذي نتخيله من خلال الوصف فهناك الخشونة والقسوة التي علينا توقعها وسط هذه الطبيعة الجميلة طالما تتناول القصة (التغيير) عن طريق الثورة «وكانت فسحة الدرب الضيق المتعرج تمتد موغلة بين الحقول، وعلى حواشيه نبتت أعشاب الطرطيع والعاقول على ربوات خضراوات على طرف اليمين في حين أمتدت من جانب اليسار للدرب أرض واسعة غطتها شجيرات الشوك المصفرة”..
* وفي متابعة اخرى يكتب عبد الله حبه تحت عنوان رحلة «جيان» من دلمون الى بغداد ومما جاء فيها: 
“شاءت الصدف أن يقع نظري في معرض الشارقة الدولي للكتاب على رواية الكاتب العراقي»جيان»(يحيى عبدالمجيد بابان) الصادرة عن دار « المدى ” وعنوانها « المرفأ وبغداد» . وأول ما يعن للقارئ لدى مطالعتها انها امتداد لأصداء السيرة الذاتية التي بدأها الكاتب في روايته السابقة ( دلمون» عن فترة فتوته العاصفة التي قضاها في البحرين بعد هروبه من أجهزة القمع في العراق.
تتضمن الرواية الحالية عدة مسارات: تاريخي وفلسفي واجتماعي ومعرفي. واراد الكاتب ان يصور بغداد في مرحلة تاريخية معينة عاشها بنفسه ، ويمكن بواسطتها معرفة اوضاع السلطة واتجاهات تفكير الناس والمؤثرات الخارجية – السياسية والاقتصادية والثقافية في عراق ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي فترات وثبة كانون الثاني وانتفاضة تشرين والنضال في سبيل الاستقلال الحقيقي. كما يظهر علاقة الشاب العراقي بالمرأة ، ويتحدث عن المشاكل الاجتماعية للعائلة العراقية البسيطة وهموم كسب الرزق ، وعن اهتمامات الشاب العراقي الثقافية ومراكز تجمع المثقفين في بغداد . وينطلق جيان في تصوير ذلك كله من تجاربه الخاصة في ختام رحلة العمر حين تجاوز سن السبعين ، وبعد ان تكدست لديه فيها شتى الخبرات والمعارف.
ان ابراهيم بطل رواية «المرفأ وبغداد» أبعدته السلطات من دلمون (البحرين) بسبب نشاطه الصحفي، ووصل البصرة بلا هوية او جواز سفر ، واحتال على رجال الأمن العراقيين في التسلل من السفينة البدائية ، والمجئ الى بيت اخته في البصرة ومن ثم انتقاله الى بغداد حيث والديه. ويقدم «جيان» وصفا جميلا لعمل ابراهيم في الصحراء حيث لا يتطلب التوظيف توفر « وثائق رسمية». وكان لابد له من العمل لأن « حرمان الانسان من حقه في العمل يجعله جائعا وربما متسولا» حسب قول أبيه. والانسان بحكم كونه انسانا يمتع بالحق في ألا يجوع ولا يظمأ ولا يتعرى ولا يمرض بسبب الفقر. 
اخيــرا .. 
وبعد الاستشهادات والتوثيقات السابقة اقول كم تمنى فقيدُنا ، وكل ُ واحد منا نحن الذين فرُضت علينا الغُربه – أن يكون مثوانا الأخير في التربة التي اقتُلعنا منها .. كان الوطن الابرز في هموم ومشاغل فقيدنا من اجل عزة الشعب العراقي وكرامته ، لقد ضاق منفانا واتسعت عذاباتنا وتعودنا أن نموت في المنفى ، ان قدرنا واحد أتينا لنرحل ، والمحزن أن المحطات التي مررنا بها ، تحولت الى منفى ووطن ؟ وأن الشعب العراقي لا زال يبحث عن وطن ، وبقى الأمل والحلم الذي رافق فقيدنا حتى الرحيل بوطن يحتضن الجميع وينعم بالأمن والأستقرار والعدالة والأزدهار .. 
عزاؤنا في “أبو جيان” وهو الأنسان المناضل الصديق والرفيق، أنه خلف ذكرى طيبةً في قلوب الذين عرفوه ولمسوا شهامته واستقامته وحنانه واخلاصه في حبه للناس وتواضعَهُ الجم ، وترك لنا ولعائلته ارثـاً غنياً حافلا بالعطاءات الثقافية والوطنية، والانسانية، طوال عقود مديدة، أنغمر خلالها مع الناس في شجونهم ومحنهم، و تميّزه الابداعي الادبي : قصة ورواية ومسرحية، وفي الكتابة الصحفية وغيرها..
وداعاً أيها العزيز … وذكراك في القلب… لن تُنسى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here