الوجه الخلفي لاسطنبول: أنا وكافكا الكردي

حمزة الحسن

ـــ سأقول الحقيقة لكن من خلال الخيال، سارتر.
كنت قادما من ساحل جولدن أحد شواطئ إسطنبول الصاخب في الصيف بالسياح،
من منطقة رومالي فينيري على البحر الأسود،
إلى شقة في شارع الإستقلال وهو أشهر شوارع إسطنبول،
يزوره ملايين كل يوم وطوله ثلاثة كيلو مترات ومقر للسفارات
وكل ما يحتاجه السائح من مكتبات ودور سينما ومتاحف،
وكل ما هو ضد القانون،
وشارع الإستقلال كان النقطة المفصلية في تحول تركيا
نحو الغرب والحداثة الأوروبية والقطع مع الامبراطورية العثمانية.
بسبب فوضى الحدث لا اعرف ان تم ذلك في الواقع ام في كابوس وفي الحالتين هو واقع مادمت شعرت به بكل الاحاسيس لان الحلم واقع ايضا وكل ما نتخيله ونحس به هو واقع.
خلال صعود سلالم العمارة المرمرية لتعطل المصعد لاول مرة،
كان ثمة شخص ينزل في الاتجاه المعاكس سقط منه كتاب بغلاف
أزرق معتم توقعت أنه رواية المحاكمة لكافكا،
ناديته ونحن نتقاطع في الإتجاهين وإستدار غير مهتم
بالكتاب الذي تناوله ببرود لكنه ثبت نظره فوق وجهي،
فشعرت بالنفور والخطر.
أمام باب الشقة في الطابق الخامس وقبل وضع المفتاح،
دفعت الباب فكانت مفتوحة وجفلت،
معنى ذلك أن أحداً ما دخل الشقة وأنا هنا أسكن منذ ثلاثة شهور.
لم أدخل الشقة وتركت الباب مفتوحاً ورأيت ستارة الشرفة البيضاء
تحلق تحت النسيم في جو صيفي ناعس وطري،
كما لو ستارة في حلم كثيف أو في فيلم عن جريمة،
وسمعت وقع خطوات راكضة على السلم نفسه وظهررجل بوليس
وآخر وثالث ويا للغرابة كان أحدهم الشخص الذي سقط منه
الكتاب في السلم لكنه هنا بثياب رجل بوليس كما لو في رواية تانغو في اسطنبول او رواية جريمة في اسطنبول للروائية التركية أسمهان أيكول البوليسية.
قال لي أحدهم بلطف بالانكليزية:
” سيكون لطفاً منك الذهاب معنا،
ولا يمكنك دخول الشقة الآن”.
” هل أنا متهم؟”
” ليس بعد لكن لا تقلق”
وبحزم ناعم أغلق الحوار ونزلنا لسيارة البوليس وانطلقت في شوارع
إسطنبول الضاجة ثم إنزلقت السيارة نحو طابق سفلي كراج،
ومن خلال مصعد انتهينا الى طابق من الواضح انه مركز بوليس،
فسمعت رجل البوليس الذي سقط منه الكتاب يسألني ضاحكاً باللغة التركية التي تعلمت شيئا منها من قاع المدينة الاسفل مع الفارين والمشردين واللصوص والمهربين الوجه الخفي لاسطنبول الباذخ ومن مدبرة المنزل السيدة أرغول ومعنى الاسم ازهار تتفتح مع ان أرغول حطام بشري وانقاض من عمل المنازل وقصة حياتها تشبه روايات أليف شافاق :
” Nasılsın كيف حالك؟”
قلت ” Fena değil ليس سيئاً”، فقال مطمئنا :
” Bir sıkıntım yok ليس هناك مشاكل”
قلت ” Rahatsızım أنا متعب”
بطريقة ملغزة قال :” sizin hakkınızda çok şey duydum سمعت عنك كثيراً”
وعندها قررت الصمت غير أنني جفلت من عبارة خاطب بها زميلاً له :
” الطريقة التى صدته بها كانت ملهمة وتتطلب شجاعةOna meydan okuyuşu ilham vericiydi. Cesaret ister”.
تذكرت الكلمة التي قالها رجل الامن في مديرية الامن العام في بغداد وانا أنزل من السيارة معصوب العينين :
” صدناه” وهي عبارة شهيرة تلك الفترة المشؤومة ومن الواضح انني تحولت الى طريدة.
فهمت ان هذه العبارة تقود الى سياق طويل،
هناك إنتظار وملف وحوادث وهو يكتمل الآن بحضوري.
في جو سلطاني وحداثي كحالة تركيا الموزعة بين الغرب والقومية والاسلام والحداثة، ولحساسية الموقف طلبت مترجما عربياً،
كنا نتحاور عبر مترجم في الهاتف قال إنه في الطريق،
وجاء فعلاً وكان رجلاً رصيناً بوجه عابس يضاعف من مناخ التشاؤم
وغرف البوليس
ومن الغريب أنني سألت الشرطي عن كتابه الذي سقط منه
أو تعمد إسقاطه عن إسم الكتاب فقال:
” ليس كافكاً كما توقعت”
” كيف عرفت توقعي؟”
” نعرف كل شيء لكنه كتاب:
داود أوغلو وتأوهاته الجنسية “.
تذكرت ان في رواية كافكا ” المحاكمة” يرى جوزيف. كاف، الشخص الذي قُبض عليه بتهمة لا يعرف عنها شيئاً على طاولة القاضي كتابا جنسيا طريقة كافكا في بناء المفارقات.
داود أوغلو هو رئيس وزراء تركيا سابقاً ،
ويتصرف كبرجنسكي مستشار سابق للامن القومي الامريكي وعقل استراتيجي في تحويل تركيا الى إمبراطورية لكنه اوقع تركيا في ورط كثيرة بتدخلات خارجية،
وسالني هو:
” هل تريد الاتصال بالسفارة العراقية؟”
” لا، طبعا، انا ملغي من السجلات العراقية ومكتوب في حقل الاحوال المدنية : أُعدم خلال محاولة الفرار من الحرب لارعاب الاسرة والاخرين ووضعوا القرار في سوق البلدة. أريد الاتصال بالسفارة النرويجية”
قال وهو يهز رأسه ويديه:
” نعرف، انك روائي ونرويجي واعتقال كيفي بلا تهمة،
وأزمة سياسية وطبول ضد تركيا في الدول الاسكندنافية،
أليس كذلك؟”
” هو الوصف الصحيح فلم الخوف؟”
” نعتقد في هذه المرحلة لا تحتاج وعليك الاجابة على بعض
الأسئلة وتحمل لطفاً بعض الأسئلة التي تتعلق بالخصوصية،
سيكون تعاونك معنا مهماً لأن شقتك حجزت من البوليس”
” ولن أدخلها؟”
” إلا نهاية التحقيق وأنت تسكن في شقة خرقت كثيراً
من إصول التعاملات القانونية دون علمك:
فأنت لا تملك عقداً للإيجار رغم أنك طالبت به لكن السمسار إبن بلدك ماطل
لأنه يسرق الايجار من المالك الحقيقي،
والشقة بكهرباء وغاز متصل بالمؤسسة الحكومية بلا عداد للاستهلاك،
أي السمسار النصاب يأخذ منك ثمن كهرباء بفواتير مزورة
لشقق آخرى وأنت لا تدقق وهو رجل مخابرات عراقي هارب هنا
وانت لا تعرف وهم كثر هنا،
زائداً العمارة نفسها تحت الإنشاء والعمارة كلها غير صالحة للسكن
في الوقت الحاضر لأنها غير مكتملة وتحت الإنشاء”
” وما علاقتي بكل ذلك؟”
” لا علاقة لك أبداً وأنت هنا على ذمة قضية مختلفة تماماً”
” جريمة؟ لم افعل ما يخالف القانون منذ ان دخلت مطار صبحة الدولي”.
صحح لي :
” مطار صبيحة كوكجن الدولي ودعنا ندخل في الٍأسئلة”.
هذا الخطأ في اسم المطار يتكرر عندي .
” هل أنا متهم أم شاهد ؟”
” ليس بعد”.
وأضاف وهو ينظر في الحاسوب:
” عندك علاقات طيبة مع كتاب أتراك”
” سعيد بذلك. ما المشكلة؟”
” لا مشكلة رغم ان اغلبهم زبائن مزمنين للمحاكم التركية “.
” ليس لسرقة التفاح أو الفستق”.
غرق في البحث في الحاسوب وعاد ينظر إلي بتركيز:
” متى غادرت الشقة اليوم؟”
” صباحاً السابعة والنصف تقريباً”
” الثامنة والربع تحديداً”
عرفت أن كاميرا مراقبة ضبطت الوقت:
” بلا شك لم تكذب فلا أحد منا ينظر كل لحظة
بساعته. أنت لن تستطيع العودة الى شقتك اليوم”
قفزت صارخاً:
” كل ما أحتاجه في الشقة بما في ذلك الجواز”
” وكل ما تحتاجه حملناه هنا في حقيبتك”.
” ما هي القضية؟”
وأضفت وأنا أنظر في وجه المترجم بغضب:
” من حقي أن أعرف؟”
قال رجل البوليس وقد وقفت خلفه هذه المرة شرطية
جميلة خففت من وحشية الموقف:
” بالتأكيد ستعرف”.
وأضاف:
” ما هي علاقتك بحزب العمال الكردستاني التركي PKK؟”
” كعلاقتك أنت بشارلي شابلن”
” لا تسخر وعندنا دليل يقول أنك كنت يوما في جبال قنديل معقل الحزب
وكتبت ذلك بنفسك؟”
” وهل تعرف متى كنت في جبال قنديل؟
يوم كان الجبل تحت سيطرة الجيش العراقي”.
بدا مرتبكاً لكنه هز رأسه وتحدث مع الشرطية خلفه وضحكت هي
وانصرفت وكان حضورها ملطفاً. قال:
” على أية حال ليست هي التهمة”.
صرخت حتى أن المترجم جفل:
” تهمة؟ إذن سأتصل بالسفارة الأن”
ببرود جليدي مزعج قال:
” تم قطع إتصالك الهاتفي بقرار قضائي”.
لا أدري هل هي صدمة أم هلوسة أم هذيان سالت المترجم
في محاولة لحوار عبثي على طريقة صموئيل بيكت ينسجم
مع عبثية اللحظة:
” من أي مدينة أنت من العراق؟”
” الناصرية”
” تشرفنا، من أي عمام؟”
” المنتفج”
” والنعم، أمي شمرية،
هل من أخبار عن سجن الحوت؟”.
حوارسريالي قرب رجل البوليس.
بدا المترجم مضطرباً لهذا الحديث وقلت:
” لا تدل لهجتك من الناصرية،
الأرجح أنك نجفي. هل تعرف الروائي زهير الجزائري؟”
” لطفاً لا يحق لنا الكلام مع المتهم بلا تكليف من البوليس”
ذعرت من كلمة متهم وحاولت أن أحتج،
لكن مكالمة مطولة مع رجل التحقيق أجراها واقفاً
إنتهت بنظرة واخزة وطويلة لي ثم قال كما لو أن ثقلاً أزيح عنه:
” الحمد لله Allaha şükür olsun “.
وأضاف بتنهيدة وهو يدفع الكرسي للخلف متنهداً :
” Kapalıyız انتهينا ”
فرحتُ لكنه أضاف سريعاً:
” ستكون الليلة فقط ضيفاً في جهاز المخابرات الوطني National Intelligence Organization بالتركية Milli İstihbarat Teşkilatı ــ اختصاراً MİT وهو مبنى حديث مرفه وعريق ”
ثم أضاف مازحا :
” عام 1974 تولى رئاسته من يحمل اسمك حمزة گرگوچ ”
” ضيف في المخابرات، السبب؟”
” اجراءات روتينية وتم التحقق من سلامة وضعك القانوني وانت لم تتعرض للاساءة والعنف”
” كل هذه الشرشحة ونشاف الريق ليس عنفاً؟”
عندها تأكد لي أن حدسي عن كتاب رجل البوليس في
السلم في أنه رواية” المحاكمة” لكافكا كان نبوءة لأن بطل الرواية
جوزيف . ك. يُتهم ويحاكم بقضية لا يعرف عنها شيئاً،
عادة السلطة تتعامل مع الأرشيف،
وكل انسان هو ملف.
تذكرت تلك اللحظة يوم هربت الى إيران وأخذني
حرس ثوري الى معتقل كتب على واجهته الأمامية:
” أهلاً بضيوف الرحمن”.
تذكرت عبارة دانتي على أبواب الجحيم في الكوميديا الإلهية:
” أيها الداخلون إتركوا كل أمل وراءكم”.
في الصباح في مطعم مرفه واسع بلوحات طبيعية باذخة تتنافر مع المكان قدم لي عامل خدمة
افطارا شهياً من العسل الجبن والشاي الاخضر والخبز الحار وهو فطوري التقليدي،
مع عبارة ملقن بها للايحاء انهم يعرفون كل شيء مع ابتسامة :
” نحن نعرف انك نباتي ”
لم أُعلق ، كنت فقط أتأمل لوحة كبيرة على الجدار لدرب ريفي طويل في خريف مشتعل باللون الرماني المحترق وفي الأفق غيوم بيض فوق جبال الأمانوس Mount Amanus كما كُتب تحته ولا يلوح ان الطريق ينتهي في مكان.
على كل حال سنمشي حتى لو كانت الكنطرة بعيدة،
” وهيمه وجحيل الوقت”.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here