حلول موَقّتة لملفات معقّدة… العلاقات العراقية – التركية رهينة “العمّال الكردستاني”؟

سركيس قصارجيان

أردوغان والسوداني في المؤتمر الصحافي بعد محادثاتهما. (أ ف ب)

بدعوة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قام رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني، الثلثاء الماضي، بزيارة رسمية لتركيا على مدى يومين، هي الأولى له منذ تولّيه منصبه في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، متأبطاً حقيبة منتفخة بالملفّات العالقة، التي يستبعد المتابعون للعلاقات العراقية – التركية في كلا البلدين إيجاد حلول لها في المدى القريب، وذلك لطبيعتها المعقّدة، سواء لجهة الديناميات الداخلية في الدولتين، أم لتشعّباتها الخارجية وتقاطعاتها مع ملفات إقليمية أكثر حساسية.

في المؤتمر الصحافي الذي أعقب الاجتماع الثنائي، أشاد أردوغان والسوداني بالتعاون بين البلدين، متعهّدين تعميق التعاون في مجموعة من الملفّات والمجالات المشتركة، مع الإعلان عن البدء بتنفيذ مشروع نقل رئيسي للسكك الحديدية والطرق السريعة، لكن، من دون الإعلان عن حلول جادة أو حتى تقدّم ملحوظ في قضايا الخلافات الثنائية.

حل موقّت لأزمة المياه
في الجوهر، أي مقاربة للعلاقات العراقية – التركية تتركز على ثلاثة ملفّات رئيسية هي: المياه وأمن الحدود والاقتصاد.

تتصدّر أزمة المياه الملفّات العالقة بين البلدين، ورغم تاريخها الممتد لعقود طويلة، إلا أنها باتت اليوم بمثابة تهديد وجودي للعراق الذي يعاني انحسار مناسيب أنهاره انحساراً كبيراً جداً، ما أدى إلى إدراج “بلاد ما بين النهرين” ضمن قائمة البلدان المواجهة لتهديد الجفاف.

أسفرت المحادثات بين الجانبين عن حل موقت تمثّل بقرار الرئيس أردوغان زيادة التدفّق عبر نهر دجلة لمدة شهر واحد “وفق الإمكانات المتاحة، وذلك في محاولة للتخفيف من مشكلة (المياه) في العراق، الذي نعلم بأنه يوجه نقصاً حاداً”، ما يعني بقاء موضوع حبس المياه عبر السدود التي أقامتها تركيا على طول نهر دجلة خارج نطاق الحلول حالياً.

في حديث إلى “النهار العربي”، يكشف المحلل العراقي المتابع لملف العلاقات العراقية – التركية محمد نعناع، جزءاً من تفاصيل اللقاء الأخير، قائلاً إن “أنقرة طلبت من بغداد تسهيلات أكبر في القنوات البرية من أجل إيصال المنتجات التركية إلى العراق، بالإضافة إلى تسهيلات أيضاً في مجال الطاقة مقابل طلب عراقي بالتوصّل إلى حلول استراتيجية بعيدة المدى لأزمة المياه، فجاء الطلب التركي بتجربة الموقف العراقي عبر تقييد الإطلاقات المائية بشهر واحد، متذرعة باحتمال هدرها من قبل العراق الذي لا يستخدم طرقاً تكنولوجية وحديثة في المسائل الإروائية”.

ويضيف نعناع أن “الطرف العراقي شعر بالحرج من هذا الانتقاد، كون العراق لا يزال يعتمد على الطرق الكلاسيكية والقديمة في الري، ما يشكّل نقطة ضعف لبغداد في هذا الملف”.

وكان تقرير للأمم المتحدة صدر عام 2015 اعتبر أن تحكّم أنقرة بتدفقات المياه من تركيا تسبّب بـ”عواقب وخيمة” للعراق، مثل ارتفاع مستويات الملوحة في اتجاه مجرى النهر، ما أدى إلى تضرر غلّات المحاصيل وإلحاق الضرر بالنظام البيئي.

ووافقت تركيا في عام 1987 عند بناء سد أتاتورك العملاق الذي انتهت من العمل به عام 1990، على إطلاق ما لا يقل عن 500 متر مكعب من المياه في الثانية إلى سوريا، إلا أنها تراجعت عن هذا التعهّد متحججة بظاهرة التغير المناخي، ما أدّى إلى تراجع حاد في حصّة سوريا، وبالتالي العراق من نهر الفرات.

كما أدّت إقامة كل من تركيا وإيران السدود على نهر دجلة وروافده إلى تهديد الأمن المائي والزراعي للعراق، وسط مخاطر بإحداث نزوح يمكن أن يزيد من زعزعة استقراره، إذ كشف وزير البيئة العراقي جاسم الفلاحي الأسبوع الماضي أن “الأنهار التي تمثل أكثر من 90 في المئة من المياه العذبة في العراق، تتلقى حالياً أقل من 30 في المئة من التدفق الطبيعي لها من تركيا وإيران”، فيما يؤكد خبراء البيئة العراقيون أن مستويات الملوحة في الأهوار العراقية فقط، والتي كانت في السابق تبلغ حوالي 200 جزء في المليون، تجاوزت اليوم 1900 جزء في المليون.

في المقابل، اكتفى الرئيس التركي، خلال حديثه عن ملف المياه العالق بين البلدين، بالقول: “لا يمكننا التغلب على مشكلات المياه العابرة للحدود إلا بأساليب عقلانية وعلمية”.

أمن الحدود والسّيادة
يعتبر النشاط العسكري التركي داخل الحدود العراقية مصدر توتّر أيضاً بين كل من أنقرة وبغداد التي تعتبر وجود القوّات التركية على الأراضي العراقية، من دون تنسيق مع الحكومة المركزية، خرقاً لسيادتها، وتهديداً لوحدة أراضيها. في المقابل، تصرّ أنقرة على حقّها في ملاحقة مسلحي “حزب العمال الكردستاني” الذي تدرجه ضمن لائحة التنظيمات الإرهابية، كما تفعل الولايات المتّحدة والعديد من الدول الأوروبية.

خلال كلمته في المؤتمر الصحافي المشترك، كرر الرئيس التركي موقف بلاده الثابت من الوجود العسكري في العراق. بعد الإشارة إلى كون “تركيا المدافع الأكبر عن الوحدة السياسية العراقية وسلامة أراضيها”، أكّد أردوغان استعداد بلاده للتعاون مع بغداد في محاربة الإرهاب، داعياً “الأشقاء العراقيين إلى الاعتراف بأن حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية وطرد هؤلاء الإرهابيين من أرضه”.

في المقابل، فإن تأكيد السوداني “سيادة العراق وأمنه” وأن العراق لا يرغب في “أن تؤثر القضايا الأمنية سلباً على علاقاتنا”، طارحاً “تبادل المعلومات الاستخبارية وسيلة للتغلب على المشكلات الأمنية في إطار حل يحمي أمن العراق وسيادته من دون اللجوء إلى العنف”، مؤشر واضح إلى عدم نجاح الطرفين في الوصول إلى تسوية للخلاف في الملف الأمني أيضاً.

ورداً على إمكان تنفيذ بغداد المطلب التركي، يرى نعناع أن “الحكومة العراقية حالياً، أكثر من أي وقت آخر، غير قادرة على إعطاء تعهد بالتعاون مع أنقرة في ملف حزب العمال الكردستاني، لأن الأخير نسج علاقات كثيرة مع أحزاب عراقية في إقليم كردستان وحتى في بغداد وفصائل وميليشيات، ويتخادم معها تخادماً كبيراً جداً”، واصفاً أي تعهّد عراقي من هذا القبيل بـ”غير الواقعي، والحكومة التركية تعرف ذلك، ولكن يمكن أن تتماشى معه وتستهلكه في الداخل التركي”.

ويلفت نعناع إلى أن “ملف حزب العمال الكردستاني ليس محصوراً بالبعد الأمني فقط، بل له بعد تجاري أيضاً مع الحزب الذي يدير تجارة على الحدود العراقية – التركية والعراقية – السورية، والأحزاب العراقية والجماعات المسلّحة العراقية المتنفّذة نسجت شراكات تجارية معه أيضاً”.

الأستاذة المشاركة في جامعة كردستان هولير في أربيل أرزو يلماز، تعتبر أن “الطلب التركي له علاقة أيضاً بالضغوط التي تمارسها إيران أخيراً على أربيل، بخاصة بعد الاتفاقية الأخيرة الخاصة بأمن الحدود العراقية – الإيرانية، وهي التي كانت بمثابة الملهمة للرئيس أردوغان للطرح الخاص بالعمال الكردستاني بعد دعوة السوداني إلى أنقرة”.

وقّع كل من العراق وإيران في التاسع عشر من آذار (مارس) الماضي اتفاقية أمنية حدودية، وصفت بأنها تهدف إلى تضييق الخناق على الحدود مع إقليم كردستان العراق، حيث تنشط عسكرياً منظّمات كردية معارضة لطهران. وتعهّد العراق بموجب الاتّفاق “عدم السماح للجماعات المسلحة بعبور الحدود باستخدام أراضي إقليم كردستان العراق لمهاجمة إيران المجاورة”.

تتّهم طهران الجماعات الكردية في كردستان العراق بالتحريض على الاحتجاجات التي اندلعت في البلاد، عقب مقتل الكردية الإيرانية مهسا أميني، كما تتهمها بالتعاون مع عدوها اللدود إسرائيل، معربة عن قلقها من “نشاط وكالة المخابرات الإسرائيلية – الموساد – في المنطقة”.

وترى يلماز في تصريحات لـ”النهار العربي” أن “الطلب التركي جاء بعدما تحوّلت إيران إلى عامل أساسي في المنظومة الحدودية العراقية، وبما يتوافق مع تقليد الخطوات الإيرانية الخاصة بالعراق”.

في العام الماضي، دانت الحكومة العراقية أنقرة بسبب الاستهداف المدفعي التركي لمجمّع سياحي في دهوك أسفر عن مقتل تسعة مدنيين، ناقلة القضية إلى مجلس الأمن الدولي، كما لا تزال النقاط العسكرية والقاعدة العسكرية التركية في معسكر “بعشيقة”، بالقرب من مدينة الموصل، إحدى أكثر القضايا إثارة للخلاف بين البلدين، إذ دعت بغداد جارتها الشمالية مراراً إلى سحب قواتها من شمال العراق، لا سيما قاعدة بعشيقة التي تعرّضت أيضاً لاستهدافات متكررة من جماعات موالية لإيران.

ويقول عضو هيئة التدريس في جامعة ألتنباش في اسطنبول الدكتور سرهاد أركمان: “على حد علمي، لم يستطع السوداني إعطاء ردّ واضح على طلب تركيا اعتبار الحكومة العراقية حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية. السوداني ليس رئيس وزراء قوياً، وكل قرار يتّخذه يمر عبر أعضاء أقوياء في حكومته الائتلافية الواسعة. لذلك لا يمكنه اتخاذ قرار مهم (كهذا) بمفرده”.

ويشرح أركمان، المتابع للسياسات التركية – العراقية، في حديث لـ”النهار العربي”، أن “اعتبار حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية مهم لتركيا من ناحيتين: التخفيف من انتقادات بغداد العنيفة للعمليات العسكرية التي تقوم بها تركيا في العراق، والسبب الأهم هو سنجار. فقد تم الاتفاق على إنهاء وجود حزب العمال الكردستاني هناك في عهد رئيس الوزراء السابق (مصطفى الكاظمي)، لكن لم يتم تنفيذه. وتولي تركيا أهمية كبيرة لهذه القضية. إذا وصف العراق حزب العمال الكردستاني بأنه منظمة إرهابية، فسيكون من الممكن، بل الإلزامي تنفيذ الخطة التي طُرحت من أجل القضاء على امتداد التنظيم في العراق”.

الاقتصاد والطاقة
إلى جانب تعميق تعاونهما في مكافحة الإرهاب، أعرب الزعيمان عن رغبتهما في رفع مستويات التجارة والاستثمار بين البلدين. وقال الرئيس التركي إن القادة وجّهوا حكوماتهم للعمل على مشروع سكة حديد وطريق سريع يربط محافظة البصرة الغنية بالنفط في جنوب العراق بالحدود التركية.

وركز الزعيمان على أهمية “طريق التنمية”، الذي وصفه الرئيس التركي بطريق الحرير، من الناحيتين الاقتصادية والتنموية “ليس بالنسبة إلى البلدين فقط بل إلى كل دول المنطقة”.

تربط العراق بتركيا علاقة تبادل تجاري بـ24 مليار دولار العام الماضي، بميل كاسح للميزان التجاري لمصلحة تركيا، ولم تتمكن الحكومات العراقية المتعاقبة من تقليصها، رغم تأثيراتها السلبية على العراق لجهة خسائره تصنيعاً وزراعة.

في المقابل، يرى محللون عراقيون أن بإمكان بغداد استثمار هذا الواقع ورقة ضغط على أنقرة مقابل الحصول على حقوق العراق المائية والسيادية، بخاصة في ظل الظروف الاقتصادية المتردّية في تركيا بالتزامن مع استعدادات أردوغان لخوض الانتخابات الأصعب في تاريخه السياسي بعد أقل من شهرين.

إلى جانب الورقة الاقتصادية، فقد توجّه السوداني إلى أنقرة مدعوماً بالجو الإيجابي في المنطقة غداة فورة التطبيع التي تشهدها، ولا سيما الاتفاق السعودي – الإيراني.

وبرأي يلماز، فإن “ملف الطاقة عامةً والغاز تحديداً بعد حرب أوكرانيا يعتبر من أهم الملفات التي تهم أنقرة في الوقت الحالي مع العراق، بخاصة بعد قرار المحكمة الدولية حظر بيع إقليم كردستان العراق للنفط من دون موافقة الحكومة المركزية”.

وكسب العراق الدعوى المرفوعة ضد تركيا في محكمة التحكيم الدائمة، معلناً إيقاف تصدير 450 ألف برميل من النفط الخام يومياً من حكومة إقليم كردستان العراق وشمال كركوك، كما أعلنت وزارة النفط العراقية أن “تركيا أبلغت العراق أنها ستحترم قرار التحكيم بالتوقف عن استيراد النفط العراقي من دون موافقة الحكومة المركزية”.

ويربط نعناع “حاجة تركيا إلى الطاقة (النفط والغاز) من العراق وملف حزب العمال الكردستاني، مقابل حاجة العراق إلى المياه”، متوقّعاً أن “تستمر أنقرة في الضغط على بغداد عبر ورقة المياه”.

ويختم حديثه بالقول: “عموماً، أي اتفاق بين الحكومتين العراقية والتركية سيكون موقتاً، لغياب الإرادة في حل المشكلات العالقة استراتيجياً ودائماً، لأن التقلّبات في الملفات العالقة والمزمنة تخدم الدواعي الانتخابية لكلا الطرفين”.
26-03-2023 | المصدر: النهار العربي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
, ,
Read our Privacy Policy by clicking here

By continuing to use the site, you agree to the use of cookies. more information

The cookie settings on this website are set to "allow cookies" to give you the best browsing experience possible. If you continue to use this website without changing your cookie settings or you click "Accept" below then you are consenting to this.

Close