من بلاط الشاه الى سجون الثورة

حمزة الحسن

ــ إذا كان عليك أن تتخلى عن الحكم، فلا تغادر ويداك ملطختان بالدماء .
* احسان نراغي عالم اجتماع ومؤرخ إيراني. النصيحة الاخيرة للشاه.
دخلت قصر الشاه المسمى نيافاران شمال طهران،
ولا يمكن تسميته بالقصر لأنه مجموعة منازل متفرقة منعزلة في حدائق جميلة،
في ضاحية تجريش الارستقراطية تحت جبال البرز وتلوح طهران من نوافذ القصر
وقد تحول الى متحف،
قادما من السجن الايراني لمدة عام كفترة تحقيق،
في الحقيقة ثلاثة سجون:
الاحواز، كهريزك، كرج،
يطلق الايرانيون على هذا الثكنات : بيوت” الضيوف” للهاربين من الحرب،
ربما تمييزا عن معتقلات الأسرى، وهي أفضل بكثير من ثكنات الاسرى، ويتم اطلاق سراح من يرغب في العمل في منظمات عراقية مسلحة والعودة الى الحرب
وهو ما لم يخطر لي لان السجن أهون من الحرب ومن غير المعقول واللامعقول العودة الى حرب بعد حربين شاركت فيهما ، سبع سنوات حرب عصابات في الجبال، وثماني سنوات في الصحراء والأدغال والمستنقعات في الجنوب أطول حرب تقليدية في القرن العشرين، ولست مقاول حروب.
ذهبت أواخر عام 1988 مع صديق الى قصر الامبراطور،
وخلال التجوال في غرف وردهات القصر ونوافذه
المطلة على حدائق مشرقة،
فطنت لحالي ولهذه المفارقة الغريبة:
أنا المتسكع لا أملك غير ثمن أجرة العودة وثلاثة أرغفة خبز من النوع الأفغاني المسمى التميس ألذ خبز في العالم ،
أتجول في قصر ملك الملوك كما يلقب والهارب.
كنت قد قرأت الساعات الأخيرة للشاه في القصر،
وكيف كان ينظر محششاً لطهران الغليان التي تلوح من القصر الواقع على سفوح جبال البرز في شتاء بارد.
طلبت منه زوجته الملكة فرح الأكثر ثقافة منه أن يحضر المفكر الايراني
المرموق إحسان نراغي الذي طرده الشاه يوماً من البلاط كمستشار وهو عالم اجتماع ومؤرخ،
لاستشارته حول الاحداث لان الامور خرجت عن السيطرة،
وقطاع من الجيش انظم الى الثورة والدولة تتفكك،
وحضر احسان نراغي واستقبله الشاه المكسور بترحاب،
وعلى مدى أيام جرت حوارات مطولة حول كيفية الخروج من المأزق،
وصفها نراغي في كتابه في ما بعد:
” من بلاط الشاه الى سجون الثورة”،
لأنه سجن بعد الثورة،
وهو كتاب يعكس عقلية مثقف مرموق وشجاع ومهذب،
في خاتمة هذه الحوارات قال إحسان نراغي للشاه:
” ليس هناك ما يمكن أن نفعله،
لقد تأخر الوقت طويلاً على كل شيء”.
في تلميح الى ان الشاه نفسه طرده من البلاط الملكي كمستشار
لأنه كان يطلب منه قبل سنوات القيام باصلاحات جذرية،
وعدم الاكتفاء بحضور الطقوس الدينية لكسب ود الجماهير،
لأن البلاد تحتاج أكثر من هذه الاستعراضات الشكلية.
غادر نراغي القصر ورافقه الشاه حتى البوابة الرئيسة التي دخلت منها،
ويمكن تخيل الشاه وهو يعيش لحظات سقوط عرشه،
والى جواره الملكة فرح ورأيت باب حمامها مغلقاً.
دخلت مكتب الشاه وفوجئت بلوحة مهداة له من الفنان سلفادور دالي:
عصفور يأكل عصفوراً،
والعصفور القاتل ينظر برعب خارج اللوحة للمشاهد بعين بشرية،
وفسرت تلك النظرة على أن العصفور يفقد براءته عندما يتحول الى بشر.
خلال سنوات لم يتذكر الشاه احسان نراغي المثقف الباهر،
وربما لو لا الملكة فرح لما تذكره،
وهي العاهة المزمنة لكل ملوك وطغاة الشرق الذين يحيطون
أنفسهم بحاشية من الرعاع والانتهازيين والمتملقين الذين يقفزون من الباخرة
قبل الغرق وفي الوقت نفسه تغص السجون والمنافي بالمثقفين .
قبل أن أغادر القصر القيت النظرة الأخيرة للوحة سلفادور دالي،
وفي الدوافع التي اختارها الشاه لوضع اللوحة على الجدار الايسر لمكتبه
عند الدخول بالقرب من طاولته وفي خلفية النافذة حديقة مشرقة وفي الحديقة مروحية كتب عليها ” هدية صدام حسين الى شاه إيران”
ولم أقتنع بذلك والأرجح أن هذا التواجد المفتعل للربط بين طاغيتين.
حتى اليوم نظرة ذلك العصفور منغرزة فيّ،
رغم نسيان تفاصيل كثيرة عن القصر الامبراطوري،
وكل ما أتذكره وقوفي في طابور أمام فرن للخبز الافغاني وكانت مفارقة هذا الانتقال من قصر امبراطور الى الوقوف مع طابور افغان مشردين وفي الطريق الى ما يشبه السجن.
جميع طغاة الشرق لم يتخلوا عن الحكم، إلا وتركوا خلفهم شعباً جريحاً غارقاً بالدم،
وبلاداً تشتعل فيها النيران لأن هؤلاء يتعاملون مع الشعب كأسرى،
ومع الثروة كغنيمة حرب. بل لا يعرفون من يحكمون،
وفي لحظات الغليان يطرحون السؤال الغريب على الجموع الثائرة “من أنتم؟”،
لانهم لم يعرفوا الشعب إلا من تقارير الأمن والاستخبارات،
ويصدمون من شعب مختلف كان في الخفاء ، في سراديب الذات،
يتربص للانقضاض يوماً .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here