اوهام الديمقراطية والناتو الشرق اوسطي

د. ماجد احمد الزاملي

الديمقراطية هى نظام لتنظيم الصراع على السلطة بين أجنحة وأقسام النخبة. نضج الظروف لانتقال ديمقراطى يعنى استعداد النخب المتصارعة للانتقال من الصراع إلى المنافسة، بما فىها من مزيج التعاون والصراع. فى المنافسة يتعاون المتنافسون على إنجاح المباراة بغض النظر عن النتيجة. وتبدأ الديمقراطية عندما تنضج الظروف لانتقال النخب من الصراع إلى المنافسة، وعندها تتاح للشعب الفرصة للقيام بدور الحكم فى المنافسة الجارية بين أقسام النخبة، فيما يتاح لأجنحة النخبة فرص متساوية للتلاعب بمشاعر الناخبين وتوجيهها. وردت الديمقراطية لأول مرة في كتب “أفلاطون” حين كتب في سياق الحديث عن الدستور الذي ينظم شؤون مدينته، أن “الديموكراتيا” ليست أسلوبًا للحكم، إنما هي شهوة تتيح لبعض الناس التحرر من كل المعايير والانفلات من الضوابط. أما الفيلسوف اليوناني “أرسطو” تلميذ أفلاطون فقد قال إن الديمقراطية أمر طيب طالما يتم منع الديمقراطيين من ممارستها. الديمقراطية التي ولدت في أثينا قبل الميلاد، كانت الجمعية التشريعية تتخذ القرارات بواسطتها، بحضور كل المواطنين، لكن فقط “الإثنيين سكان أثينا” الذين كانوا يشكلون حوالي %18 من السكان، هم وحدهم من يمتلك الحق في التصويت، لأن “الديموكراتيا” كانت تستبعد النساء والعبيد والرجال الذين لا يمتلكون شيئًا، وكذلك كل من ينحدر من سلالة مختلطة. وحسب الدرس الماركسي، قوانين الديمقراطية ومؤسساتها هي الأدوات التي تتم بواسطتها ممارسة سلطة الطبقة البورجوازية. ومن ثَمَّ يصبح النضال ضد تجليات تلك السلطة الطريق نحو ديمقراطية “حقيقية”، ديمقراطية “لا تعود فيها الحرية والمساواة ممثلتين في مؤسسات القانون والدولة، بل متجسدتان في ذات أشكال الحياة المادية والخبرة المحسوسة”.

الهدف من تأسيس حلف شمال الأطلسي عام 1949 كان لمواجهة الخطر السوفياتي، بعد أن أصبح العالم يعيش مرحلة الحرب الباردة التي جاءت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي عزّزت من قوة الولايات المتحدة الأميركية، عبر دخولها المتأخر في الحرب، واستخدامها أقسى أنواع الأسلحة المحرّمة دولياً (السلاح النووي) ضد اليابان، لترسّخ في ذهن العالم درساً لا يمكن أن ينساه، وهو أن الولايات المتحدة الأميركية لن تتردد في ارتكاب أقسى الجرائم والفظائع حفاظاً على وجودها وهيمنتها، ولأنها تعتبر أن باقي شعوب العالم أقل مستوى منها ومن الشعوب الغربية، فقد اختارت اليابان (الآسيوية) مسرحاً لتلك الجريمة، مخلّفة أجيالاً مشوّهة من اليابانيين، بقوا شهوداً على “عظمة الديمقراطية الأميركية وشعارات حقوق الإنسان”. حلف “الناتو” باعتباره الإطار المرجعي لتفسير ما يجري الآن في المنطقة. NATO باللغة الإنكليزية هي اختصار لعبارة ومعناها “منظمة معاهدة حلف شمال الأطلسي”، أي أننا إزاء حلف عسكري تم إنشاؤه بموجب معاهدة دولية أبرمت عام 1949 بين عدد من الدول الواقعة على ضفتي المحيط الأطلسي، منها دولتان أميركيتان تقعان على ضفته الشرقية، هما الولايات المتحدة وكندا، وعشر دول أخرى تنتمي جميعها إلى القارة الأوروبية الواقعة على ضفته الغربية، ومن هنا جاءت تسميته بـ”حلف شمال الأطلسي”.
ومع وصول الرئيس جو بايدن إلى السلطة في واشنطن، جرت مراجعة مفهوم “الدفاع الخارجي” مرة أخرى، وتم تجميد مشروع التحالف الاستراتيجي الذي دشن في عهد الرئيس ترامب، واعتبر فكرة خيالية غير قابلة للتحقق، لكن مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية في شباط/ فبراير 2022، بدأت تتبدل الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط، رغم أن دول المنطقة لم تتورط في النزاع واتخذت مواقف محايدة، لكنها تـأثرت بتعثر سلاسل توريد الغذاء والحبوب، وارتفاع أسعار الوقود، وقاد إلى مشكلة التضخم، وهو ما أدى إلى تنامي القلق من حدوث احتجاجات تعيد ذكرى الانتفاضات الشعبية في العالم العربي.
وتنتمي فكرة إنشاء تحالف شرق أوسطي إلى الرغبة الأميركية بإعادة ترتيب أوراق المنطقة، وذلك ضمن مساعيها لتركيز جهودها لمواجهة التحديات التي تفرضها الصين بشكل رئيسي وروسيا بمستوى أقل. “إسرائيل” تدعم الفكرة بقوة ليس لفائدتها العسكرية والأمنية، وإنما باعتبارها فرصة حقيقية لتطبيع وجودها في المنطقة العربية، تعطيها “شرعية” عربية مجانية، وتمنحها حرية الاستمرار باحتلال الأرض الفلسطينية وارتكاب جرائم ابادة والفصل العنصري والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين. لكن الحقيقة أن هذا التحالف المشبوه، هو وليد حالة الخوف والهلع والرعب التي دبَّت في أوصال الإمبريالية الأمريكية، والأنظمة التسلطية العربية، والمستعمرة الاستيطانية اليهودية، وهو يشير إلى حالة القلق الوجودي الذي ينتاب أطراف التحالف، وتنامي الشكوك وفقدان اليقين. ومن المؤشرات الجديدة إلى تقدم الأجندة الخاصة بتشكيل “حلف شرق أوسطي”، الكلام عن دمج الدفاعات الجوية الإقليمية والمناورات البحرية المشتركة، والأهم تنشيط التشاور الأميركي العربي. وتبقى بعض الأسئلة التي سنتعاطى معها في المستقبل: كيف ستؤثر الانتخابات الأميركية في 2024 في “ناتو الشرق الأوسط”؟ وكيف ستُحل معادلة الملف الفلسطيني مع قيام حلف يضم السعودية وإسرائيل، وكيف سيتعايش الحلف القادم مع اتفاق نووي مالي مع إيران. ويتشكّل هذا التحالف، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، من جميع دول مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى الأردن ومصر. وقيل آنذاك إن هذا التحالف سيرى النور في العام 2019، وقد جاءت المحاولة الأمريكية في عهد ترامب في إطار سعي الولايات المتحدة إلى تقليص وجودها في الشرق الأوسط، وتقليل أعباء الأمن الإقليمي في المنطقة للتفرغ لمحور آسيا المحيط الهاديء. وتجد إسرائيل فائدة في الإعلان عن أن مِثل هذا التحالف بدأ في التشكُّل فعلاً؛ إذ انتهز المسؤولون الإسرائيليون فرصة زيارة بايدن ليعلنوا، في تصريحات جرى تضخيمها في وسائل الإعلام المحلّية، أن دول الخليج ستباشر بناء نظام دفاع جوّي مشترك. وعلى رغم سقف التوقّعات العالي الذي حدّده مضيفوه، لم يَصدر عن الرئيس الأميركي أيّ إعلان عن التحالف خلال فترة وجوده في إسرائيل، فيما حظيت الفكرة باستقبال فاتر خليجيّاً. فعلى هامش زيارة بايدن اللاحقة إلى السعودية. والهدف من ناتو شرق أوسطي هو المحافظة على أمن “إسرائيل”، من خلال ضمان تفوقها العسكري على دول المنطقة مجتمعة, وأمن الطاقة وإمداداتها وأسعارها، بما يضمن المصالح الاقتصادية لها ولحلفائها, التعاون مع النظم العربية الحاكمة في المنطقة، ولكن بما يتناسب مع مستوى الدعم الذي تقدمه لتحقيق الهدفين السابقين. وفيما عدا ذلك، لا يوجد ما يشير من قريب أو بعيد إلى أن الولايات المتحدة باتت مستعدة لتقديم ضمانات أمن تعاقدية جماعية لدول المنطقة، خاصة للدول العربية. أن تداعيات الأزمة الأوكرانية عالميًّا في كافة الجوانب والخسائر التي تكبدها العالم اقتصاديًّا، وذلك وفقًا للمعهد الوطنى للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في المملكة المتحدة، والذى يتخذ من لندن مقرًّا له، والذى أكد أن هذه الخسارة التي تجاوزت تريليون دولار ستسهم في زيادة التضخم العالمى بنسبة 3% خلال السنة الحالية، من خلال إطلاق أزمة أخرى في سلاسل التوريد، إضافة إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز عالميًّا, كل هذا يدفع الدول الرأسمالية للبحث عن مصادر مضمونة ورخيصة للطاقة.
إذ يتم بناء حلف الشرق الأوسط الكبير تدريجياً، خطوة خطوة، تبدو خطوات السعوديين وكأنها متأنية لكنها ثابتة. فهي تقود حلفاً في جبهة اليمن، لكنها تتحمل الضغط الدبلوماسي الآتي من واشنطن، وانفجارات الصواريخ الباليستية على أراضيها وفي أجوائها. وكأن الرياض أيدت شركاءها في أبو ظبي والمنامة ليشبكوا الأيادي مع الإسرائيليين، فبات من الصعب على تل أبيب ألاّ تدافع بكل قوتها السياسية عن الخليج داخل أميركا، فحمت المملكة نفسها بشكل غير مباشر. كل ذلك يشير إلى بناء منظومة قوية ومعقدة قد تتحول إلى “ناتو شرق أوسطي كبير”. أن أحد أهداف فكرة “ناتو شرق أوسطي” هو أن يكون ذراعاً للحلف الأصلي في المنطقة لمواجهة التمدد الروسي وليس الإيراني فقط، خاصة وأن موسكو ترتبط بعلاقات شديدة التميز مع عدة دول عربية على رأسها الجزائر ومصر. كما أنها أمدّت الجزائر بصواريخ “اسكندر الاستراتيجية” التي أثارت قلقاً اوروبياً نظراً لقدراتها الهجومية الكبيرة ومداها شديد الاتساع.
أثار الحديث عن تشكيل “ناتو شرق أوسطي” أسئلة مصيرية بالنسبة للأمن القومي العربي، في ضوء ما يمكن أن يترتّب على انخراط دول عربية في تحالف مع الكيان الصهيوني، وما مثَّله ويمثله من خطر مباشر على أمنها ومصالح شعوبها على خلفية هشاشتها الدفاعية والأمنية، من جهة، وقدرات الكيان الكبيرة في مجالات الدفاع والأمن السيبراني، من جهة ثانية، وما يحظى به من رعايةٍ غربيةٍ، أميركيةٍ بشكل خاص، ما يفرضه قائداً مباشراً للتحالف المزعوم، من جهة ثالثة. فمنطلق التفكير الأميركي حول الفكرة هو دمج إسرائيل في الإقليم وتحويل المحيط الجيوسياسي لكيانها إلى درع واقية له، إذ ستشكل وسائط الدفاع الجوية في الدول العربية، في حال ربطها بوسائط دفاعه، خط دفاع أول وجهاز إنذار مبكّر يتيح لقواته التعامل مع الضربات الإيرانية المحتملة قبل مئات الكيلومترات من وصولها إلى كيانه، وتسمح له بتوفير أموال طائلة في مجالات الرصد والمراقبة، بالإضافة إلى تسويق صناعاته الدفاعية في هذه الدول. وقد سعى إلى تحقيق هدفه في إقناع الدول العربية المعنية بـ “وحدة” المصير في مواجهة الخطر “الإيراني” وبقدراته الساحقة في مجال الاستخبارات والتقنية الإلكترونية عبر ملاحقة التمدّد الإيراني في سورية والعراق ولبنان، في إطار خطته السابقة, وتنفيذ عمليات تخريب واغتيال على الأرض الإيرانية، في إطار خطّته الجديدة ، التي لا تستهدف الإضرار بالمصالح الإيرانية بل تقويض النظام الإيراني بالكامل. وقد نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية خبراً موسعاً يتعلق بلقاء مسؤولين عسكريين أمريكيين مع نظرائهم في كل من إسرائيل والأردن ومصر وعدة دول خليجية. وحسب المصدر فإن الاجتماع عقد في مدينة شرم الشيخ المصرية، وتناول استكشاف سبل التنسيق ضد تنامي قدرات إيران الصاروخية وذات الصلة ببرنامجها للطائرات المسيّرة. فقد دفعت واشنطن لتنظيم اجتماع على مستوى كبار القادة العسكريين الأمريكيين والإسرائيليين، وقادة من دول عربية وخليجية عدة استضافته مدينة شرم الشيخ المصرية، قالت وسائل إعلام عربية وأمريكية إنهم بحثوا التحالف لمواجهة إيران.
وعلى الرغم من أن فكرة الناتو فكرة سيّئة الصيت، على الأقل بالنسبة إلى دولنا وشعوبها، كما أن اسم هذا الحلف (الناتو) اقترن بالقتل والاحتلال ونهب خيرات الشعوب، ومنها دولنا العربية، فإن بعض الدول العربية أراد استنساخ الفكرة عبر تأسيس ما سُمّي في بداية الأمر” الناتو العربي”. وانضمام تل أبيب للحلف المفترض يشكل عقبة رئيسية نظرا لما يعنيه ذلك من استفزاز مباشر لإيران الذي ترى في وجود إسرائيل بالخليج العربي تهديدا مباشرا يستدعي التدخل. كما أن هذه الخطوة تلقى معارضة من دول عربية من المفترض أن تكون جزءا من هذا التحالف، الأمر الذي قد يفهم ضمنا من تصريحات ملك الأردن الذي طالب أن تكن مهمة التحالف “واضحة جدا حتى لا تربك أحدا.
. إن فكرة تشكيل تحالف عسكري شرق أوسطي بمشاركة إسرائيلية، هو نتاج خوف الأنظمة التسلطية العربية من تنامي القدرات الإيرانية وعودة الحركات الإسلامية السياسية، والخشية من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية بعودة موجة ثانية من الانتفاضات الشعبية. لكن تاريخ المنطقة يشير إلى فشل كل محاولات تشكيل تحالف عسكري عربي في السابق، بدءاً من فشل محاولات الولايات المتحدة بتشكيل “حلف بغداد” في خمسينيات القرن المنصرم، وفشل محاولات إدارة الرئيس أوباما والرئيس ترامب، وهو ما سيفشل فيه الرئيس بايدن. نستخلص من ما تقدم إلى أنه تَحوِّل التقدير الاستراتيجى للولايات المتحدة ومصالحها نحو آسيا، ومع الاقتراب أكثر نحو مواجهة متوقعة مع المارد الصينى، ستظل منطقة الشرق الأوسط بمواقعها الاستراتيجية المختلفة ومواردها الفرصة الأثمن والدائمة كخيار مرتبط بالمصالح القومية للولايات المتحدة ومحور هذه العلاقة أمن إسرائيل والموارد النفطية في المنطقة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here