من مذكرات الاستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي (3)


قصة إختطافي ورحلتي في الطب والحياة

الوصول إلى مقر الاختطاف

عند توقف السيارة فتح الصندوق وأخرجوني منه وأدخلوني في بيت ثم إلى غرفة وأغلقوا علي الباب وبقيت لوحدي لفترة قليلة ثم دخل الرئيس ومعه اثنان من العصابة وتكلم كلاما بذيئا ثم خرجوا وأقفلوا الباب من الخارج. وعند مغادرته المنزل دخل علي أحدهم ونزع الجامعة وغطاء العين ونظرت حوالي وإذا أنا في غرفة داخل بيت اعتيادي وأسمع صوت سيدة وأطفال في البيت وأغان صادرة من جهاز تلفزيون.

كانت الغرفة عادية لبيت متواضع من بيوت الطبقة الفقيرة نسبيا. مساحتها كانت حوالي الأربعة في ثلاثة أمتار. فيها على الجدار ضوء فلورسنت واحد يتدلى منه السلك الكهربائي بعشوائية. على جانب الغرفة وضع سرير خشبي لشخص واحد تحت الشباك الوحيد فيها الذي كان بارتفاع المتر وعرض أقل من متر. وعلى الأرض مقابل الباب فرشت “حصيرة” من الخوص (ورق سعف النخيل) وعليها بطانية ومخدة. الحصيرة لم تغلف كل أرض الغرفة وبدت الأرضية الكونكريتية للغرفة. وهناك كان مكان نومي المقرر حيث يمكنهم أن يتلصصوا علي من ثقب قفل الباب ليطمئنوا من أن كل شيء كما يرام لهم. كانت جدران الغرفة مغلفة بالجص ماعدا جانب الباب حيث كان الطابوق غير مغلف بالجص وهذا الحائط كان بعض سلوتي في وحدتي حيث كنت أعد الطابوق صعودا ونزولا كي أقضي الوقت حتّى حفظت كل حفرة أو انحراف في الطابوق!

كما ذكرت كان في الغرفة شباك بقياس المتر المربع تقريبا وببوابتين مزججتين ولكنه مدرع بالحديد بحيث لا يمكن الخروج منه أبدا. فرحت كثيرا حيث اعتقدت أنه يمكنني أن أتطلع إلى ما بخصوص البيت من مناظر يمكن أن ترفه عني. ولكن خاب ظني عندما فوجئت بان أمام الشباك حائط بارتفاع عالٍ ويبعد عن الشباك بنحو قدم أو أكثر بقليل. حاولت أن “أتلصص” من خلال فتحة مفتاح باب الغرفة لعلي أتعرف على بعض ما يظهر أمامي خارج الغرفة وخاب أملي كذلك لأنهم وضعوا المفتاح في القفل بحيث لا يمكن مشاهدة أي ضياء خارج الغرفة. كانت في الغرفة مروحة عمودية.

سماع صخب

الليلة الأولى الأربعاء 28/4/2004: بعد أن استقر مقامي في الغرفة جلب لي أحد أفراد العصابة “العشاء” والذي كان يتكون من الخبز والخيار والطماطة.

في خضم هذه الأفكار سمعت صخبا خارج الغرفة ثم فتحوا الباب وإذا بالرئيس يدخل ومعه ثلاثة من أفراد عصابته. جلسوا جميعا على السرير وكنت معصوب العينين وفي معصميّ الجامعة وأجلس على الأرض فوق الحصير. بدأ “سيادته” بالقول يجب عليك تهيئة نصف مليون دولار كفدية للإفراج عنك. عندها ابتسمت من خلف العصابة قائلا له من تظن أن أكون أنا ؟ أنا لم أملك أي مبلغ ولا قريب من ذلك. ضربني بكفه على حنكي وانتهى بأن يتفوه بكلمات بذيئة وتهديد بالقتل أو البيع لعصابة أخرى أو السجن في مكان ناء مليء بالكلاب الوحشية التي لن أنجو منها. خرج من الغرفة يعربد ويقول سنراك غدا. وأمر بغضب من كان معه بأن يبقوا العصابة والجامعة. ولكن عند مغادرته وإقفال الباب عاد ودخل أحدهم وهو شاب في الثلاثينيات من عمره يعتذر عما بدر وفتح العصابة والجامعة وجلب لي قنينة ماء وهو يقول “دكتور والله إيدي ما تخليني (لا تسمح لي) أضع العصابة ولكنها الأوامر”. ولم أعلم ما هي حقيقة تفكيره داخل نفسه.

كان في الغرفة مروحة عمودية مثبتة على أقصى سرعة وتصدر صوتا هادرا مزعجا عند استدارتها حوالي التسعين درجة نحو اليمين واليسار. كان صوتها يرتفع ثم ينخفض وهنا كان ينتهي بأصوات تشبه الطلقات النارية ثم تعاد الكرة بالصوت الهادر ثم المنخفض والطلقات وهكذا. لم أجرؤ على تقليل سرعتها لأني اعتقدت بأنهم تقصدوا بذلك حتّى يغطي هديرها على الهمس والكلام الذي يجري داخل البيت كي لا أسمعه! بطبيعتي لا أحب تيار الهواء المباشر علي فكنت أحاول تغيير اتجاه المروحة مساءا وأعيدها إلى ما كانت عليه صباحا كي لا أثيرهم بتغيير أي شيء من تدبيرهم. وعند انقطاع التيار الكهربائي ولحرارة الجو كنت استخدم قطعة من الفلين الأبيض وفيها حواف مرتفعة تشبه الصينية (وكان قد جلبها لي الشخص “الطيب”) كمروحة يدوية “مهفة” لتجلب لي بعض الهواء. وكذلك استعملتها لتجميع ماء الوضوء مستخدما قنينة الماء التي بحوزتي. ومن ثم أسكب الماء المتجمع على الحصير كي تبرد الغرفة. والشخص “الطيب” هذا كان أحد أفراد العصابة الذي كان يسامرني ويحاول إظهار تعاطفه معي.

غرفة مجاورة

طلبت منه أن أذهب إلى المرافق الصحية فرافقني حتّى باب المرافق وكان كل من في البيت نائما والهدوء يخيم في البيت ماعدا نوبات سعال متكررة تصدر من الغرفة المجاورة لغرفتي. عدت بعدئذ إلى الغرفة. طلبت منه معرفة اتجاه القبلة لأؤدي فريضة الصلاة فلم يجب للوهلة الأولى لخشيته أن يعطيني بعض الدلالة عن موقع الدار أو انه لم يعرف الاتجاه بالمرة فتردد في إعطاء المعلومة. أرشدني إلى اتجاه لم أعلم هل كان الاتجاه الصحيح أو اتجاها اعتباطيا. وبالمناسبة فكان في تلك المنطقة أربعة جوامع وكان الأذان الصباحي بمكبرات صوت تسمع على البعد وكان اثنان منهما على المذهب الشيعي واثنان على المذهب السني. وهذا سهّل الدلالة على مكان احتجازي بعد قراءتي لخارطة المنطقة بعد إطلاق سراحي.

لم يزرني النوم تلك الليلة إذ كان فكري مشغولا بزوجتي وأولادي وحالتهم النفسية وماذا عساهم أن يفعلوا والصعوبات التي تواجههم في الحياة وهم كما ذكرت آنفا لم يستعدوا لمواجهة متطلبات الحياة بعد.

قضيت تلك الليلة الأولى ولم أخلع بدلتي التي كنت فيها. ولكن الذي خطر على بالي أن أخلع ربطة العنق متخيلا أنها توحي لهم بأن يخنقوني بها عند تأزم الحال فأخفيتها في جيبي. والغريب أنهم لم ينتبهوا عندما أفرغوا جيوبي في اللحظات الأول للاختطاف لساعة اليد التي كنت ألبسها ما أثار استغرابي وحمدت الله على أنه بإمكاني معرفة الوقت على الأقل. وحتّى أمَوَه عليهم ذلك كنت دوما أسألهم عند مجيئهم عن الوقت.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here