مساحات نظيفة ناجية في بابل الجديدة

حمزة الحسن

ـــ ليس هناك أحقر من سلوك بشري لتدمير حياة بريء.
* دويستوفسكي.
لماذا ؟
لأن من يفعل ذلك عبر المسافة بين الانسان الى الوحش،
وقطع نفقاً طويلاً من العاهات والتشوهات كي يصل الى هذه الحالة،
بل قطع كل صلة بعالم البشر ولم يبق غير القناع وصار يلتهم ما تبقى له من انقاض ذات كما تفعل عقرب قاتلة محاصرة بالنار بلدغ نفسها .
الجمال الانساني لا ينبع الا من ينابيع صافية لا من برك اسنة
نسمع أصوات ضحايا الصراع،
لكننا لا نسمع أصوات الأبرياء
الذين يُغتالون كل لحظة بكل أنواع الاغتيال المادي والنفسي والأخلاقي،
لأن صوت البراءة خافت وناعس وحي وخجول
كضوء القمر ونبع الماء ونوم الاطفال الرضع.
أين مكان البريء اليوم؟
لقد اختفى مفهوم البراءة من التداول منذ سنوات،
لأنه بلا بيئة ولا قيمة ولا معنى في زمن الشطارة والاحتيال،
وتختفي المساحات الجميلة في العتمة خجلاً من الظهور في محفل الزور.
البراءة أقدم من الثقافة والحضارة،
لأنها ولدت مع ولادة الضمير الذي اكتشف العلماء بالدليل الصوري المقطي الضوئي
مكان وجوده في الدماغ مثل أي عضو جسدي آخر،
يضمحل بعدم الاستعمال ويضعف كأي عضو جسدي أو لا وجود له أصلاً
نتيجة ولادة مشوهة وخفية كما يحدث في ولادة ناقصة لعضو ظاهري.
أعرف السيدة هيلين ـــ اسم مستعار وهو اسم ابنتها وتستطيع ان تصرّح لو رغبت ــــ من أعوام،
ورغم كل العواصف والمتاعب والمشاكل الخاصة والعامة،
لكنها لا تكف ولا تمل من البحث عن الكلاب الجائعة والمريضة وكذلك القطط والطيور
وباقي الحيوانات ومن مصروفها الشحيح تشتري
الطعام وتطبخه وتطوف في البلدة على الحيوانات،
كما لو انها خارج الانقاض والتشوهات قادمة من السراب حيث لا نتوقع علامة أو ضوء
أو هتاف أو جوقة أطفال منشدين.
تطعم وتضمد وتحمي ونظام سياسي يتصارع على الاسلاب ومجتمع يتداعى،
حتى تكسدت أمام بيتها أعداد من الكلاب والقطط الجائعة،
لأن الحيوان لا يعرف الخطأ أبداً ويعرف الناس،
ومن خلالها تعرفت على أحياء بلدة خانقين او بابل الجديدة حيث تسمع اللغة الكردية والتركمانية والعربية بكل اللهجات بنسيج موحد وتعرفت على نهر الوند وجسرها الحجري وشوارعها وبشرها وازقتها والاحياء
جلوة عبد الله بيك
تيلخانة باشا كوبري المزرعة أسبارطة الحميدية
تولة فروش الأولى تولة فروش الثاني حي العمال حي المعلمين المحطة حي زركاري الأولى
حي زركاري الثاني آزادي بان آزادي خوار درو
شهيدان أوبارة شمعة الماء خبات (حي الشرطة) دارة كونارة
أركوازي إمام عباس ملك شاه الأولى ملك شاه الثانية كاريز بان الخ
بل كنت أرافقها من خلال الكتابة على الخاص في جولاتها وهي تنقل الطعام
في حرارة الصيف وبرد الشتاء في زمن رديء،
تذكّر بشخصية الدكتور ريو في رواية كامو” الطاعون”
الذي يطوف المدينة وسط الجثث والخطر والأنين للمساعدة .
سيدة مثقفة مهذبة من أسرة محافظة ربت أطفالها في ظروف قاسية،
وعندما طاروا من العش،
عاشت فرحة التضحية مهما كان الثمن في نموذج نادر يضيع في الضجيج والابتذال،
وعملت في مهن شتى بشروطها وعندما تشعر ان المكان ضاق بها،
تفتح الباب وتغادر كأميرة غاضبة لا كسيرة او منهزمة بقامة شامخة،
وتحتضن نفسها بصمت في بيتها
لكنها تجهز نفسها لليوم التالي بشجاعة وشرف ونقاء إمرأة
ناجية من العاهات ومن انعدام الثقة بالنفس ومن التردد وتخلق فرصة العمل،
واذا لم تجد تكتفي بالقليل بمهارة سيدة بيت عفيفة أبية ومخلصة لذاتها،
سيدة مبادئ لا أشخاص ولم تضع يوما ولن.
مرة قالت لي انها سمعت بوجود كلب ينزف في مكان وستذهب اليه،
رافقتها في الرحلة عبر الماسنجر،
أجرت تاكسياً وأنا أتابع.
من يتوقع اني هنا ابحث عن كلب جريح في العراق؟
تلك هي الحياة السرية للكاتب.
أوقفت التاكسي في مكان وبحثت ولم تجد وعادت للسيارة،
سألها السائق:
” عن ماذا تبحثين؟”
” كلب ينزف وجريح”.
فزّ السائق كما لو أنه اكتشف ديناصوراً قربه ولم تعلّق،
وفي يوم آخر كنا معاً نبحث عنه لكنه إختفى،
ولأنني أعرف ظروفها بدقة وانها تستعمل طعامها الخاص للحيوانات،
ولأنني أعرف نقاوتها وصدقها المطلق وعفة النفس،
بحثت عن كل الطرق لابداء الدعم وفعلتُ بحسم وإصرار،
وكنت أكثر سعادة منها وهي تذهب للسوبر ماركت وتشتري علب طعام
للكلاب والقطط بل وحتى للطيور.
ذلك اليوم لا تعرف كلاب وقطط وطيور خانقين او بابل الجديدة التي أكلت بفرح،
أن حسابها مدفوع من حافة العالم.
رغم كل القتامة والسلبية وأعمال السوء،
لكننا نستطيع فعل أشياء كثيرة بسيطة لا تكلف الكثير،
والسيدة هيلين وردة بين الانقاض،
ولا يتعلق الأمر باطعام حيوانات فحسب،
بل علامة وبشارة على أن الضمير العراقي حي ويقظ ونظيف،
حتى في هذا الانحدار المخيف هناك مساحات نظيفة ناجية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here