حمزة الحسن
ـــــ منذ 200 سنة حتى اليوم إفطار رمضاني في كنيسة ديانا Diana
بلدة ديانا في اربيل حلم عراقي مستقبلي حقيقي على الارض،
رمز التعايش العفوي النظيف بين
المسيحيين والمسلمين على مر العصور رغم الافراط في الصور السلبية في السنوات الاخيرة
دون الالتفات للامكنة النظيفة والبقع المشعة وتوسيع مساحة الامل والحفر في الظلام ولو باعواد الثقاب .
هذه البلدة أزيلت من الخارطة وتمت تسويتها بالارض
في حرب عام 1974 ــ 1975 ولم يسلم الجامع ولا الكنيسة،
وتحولت الى أنقاض ورماد وخرائب وكنت شاهدا على خرابها وقيامتها لان هذا النوع من المدن لا يموت لانه ليس مبنيا من الحجر بل من الحكمة والمحبة والطبيعة .
ثم عدت اليها عام 1983 خدمة الاحتياط في حرب الخليج الاولى وكانت محنة نفسية أن يكون بعض أصدقائي الشيوعيين على الجانب الاخر من جبل قنديل وغيره وكنا قبل ذلك في السجون مرتين، في معركة سلاح هذه المرة في وضعيتين غريبتين، معركة الرابح فيها لا يأخذ شيئا كما لو في رواية الإخوة الأعداء لــــ كازنتزاكي ثم التقينا ثانية في المنافي بعد ان صار الوطن من حصة الاجنبي لكن هذا هو تاريخ العراق الغريب الذي لا يخضع لمنطق وسياق وتسلسل وتلعب الحوادث الفردية فيه دورا في صناعة التاريخ.
لقد تبادلنا الدم والدموع والمقابر وتأخر الوقت طويلاً لزرع المحبة لأن هذا الوطن يتسع للجميع ونحن في وطن تتشابك فيه الروابط والاعراق والاديان والاحلام والمصائر والارض والامل والمستقبل تشابك جذور وأغصان الشجرة وأنا كمثال خال لسبع أخوات وإبن من أب كردي : هيام وهناء ونادية وهدى وايمان وسعاد والمرحومة أمل وعلي ، نصفي في الجبل والنصف الاخر في الصحراء.
قبل سنوات حاول المسلمون في قرية هاوديان التابعة الى ديانا بناء مسجد،
ولم يجدوا أرضا فتبرع مسيحي بقطعة أرض وتم بناء المسجد وأطلق عليه:
التآخي.
ديانا مركز قضاء سوران وعدد سكانه 200 الف نسمة في محافظة أربيل،
يحيط بها من الشمال ويطل عليها جبل زوزك الذي شهد معارك طاحنة
وصلت الى السلاح الأبيض في ليلة عاصفة ثلجية
في هجوم مباغت تحت نثار الثلج في نهاية خريف 1974 ،
ومن الجنوب قضاء رواندوز وجبل هندرين،
وجبل كورك ونواخين ولكل منها تاريخ من الحروب كنت شاهدا وشريكا فيه،
عند الخروج من مضيق كلي علي بك تطل ديانا في سهل فسيح مشرق
في الربيع بأجمل زهور الأرض.
ديانا Diana إلهة القمر والصيد عند الرومان.
ابنة جوبيتر اله السماء والبرق كما ورد في الأسطورة الرومانية،
لا يمكن لمن رآى ديانا الاطلال والخرائب والحرب،
أن يتخيل صورتها اليوم وهي تنهض من الرماد،
مدينة حديثة حية متسامحة متآخية في نسيج إجتماعي مذهل.
ظلت ديانا الانقاض عالقة في الذاكرة كرمز للمكان المسالم الجريح،
وفي عام 2008 وأنا أكتب رواية” حقول الخاتون” عن تجربة تلك السنوات المشؤومة التي وصفت اول رواية عربية تتعرض للثورة الكردية من داخل تجربة وجحيم سنوات بلا حديث عن بطولة بل المصير البشري وماساة الانسان في الحرب امام عنف السلطة لان المحاربين ضحايا ، بزغت ديانا في الذاكرة ،
وكانت مسرحاً ومكانا لقصة حب بدل قصة حرب ،
قد تولد في قصة حب أخرى في قلوب آخرين
تنتهي باغنية” تخيل Imagine” لجون ليون مغني وشاعر فرقة البيتلز والثلج يهطل فوق الراوي:
” تخيل أن كل الناس يعيشون من أجل اليوم .
تخيل أن ليس هناك بلدان ليس من الصعب فعل هذا.
لا شيء لتقتل أو تموت من أجله . تخيل أن كل الناس يعيشون في سلام.
بإمكانك أن تقول إني حالم، ولكني لست الوحيد . آمل أن تنضم إلينا يومًا وسيصبح العالم كواحد. تخيل أن ليس هناك أملاك. أتساءل إن كنت تستطيع . لا حاجة للطمع أو الجوع أُخوّة الإنسان تخيل أن كل الناس يتقاسمون كل العالم”.
في صورتها الجديدة تثبت هذه البلدة الاسطورة الحية
ان التعايش ممكن والحب ممكن والسلام ممكن،
ومن لا يصدق ليذهب الى ديانا،
حيث المسلم اذا لم يجد مسجداً يمكنه الصلاة في كنيستها،
واذا المسيحي حل عليه الليل ولم يجد مكانا للنوم،
يمكن أن ينام في بيت مسلم.
من يريد أن يتعلم كيف تبنى المدن، من يريد تعلم السياسة كفن الخيارات الأبهى ، من يريد تعلم نتائج الحكمة والعقلانية وثقافة المسافات مع الآخر، من يريد رؤية صورة عراق مستقبلي ، من يريد الاحساس بالمشي الهادئ المطئن والسعادة النقية والأمان العفوي وآثار المحبة والاخوة والتضامن والنوم الهانئ، ليذهب الى ديانا فحسب لا الى معاهد وجامعات السياسة .
يوم كان الاخرون يتقاتلون كانت ديانا تزرع الزهور وتحرث الارض
وتؤسس الحدائق
يوم صار الاخرون وحوشا كان جرس كنيستها وصوت مؤذنها يناديان للمحبة،
والتضامن
يوم شبع الاخرون من الموت
كانت ديانا لم ترتو من الحياة.
ويوم ذهب الاخرون الى الجنون والانتقام والمقابر
كانت ديانا تنام وادعة سعيدة.
لكي تعرفوا من هي ديانا انظروا الى حيطان المنازل الخارجية
ليس سوى حدائق.
حيطان المنازل وحجم الاقفال يعكس حياة الناس.
من التقليد المسيحي في ديانا مأدبة إفطار في كل رمضان
داخل الكنيسة منذ 200 سنة حتى اليوم،
في الاحتقالات الدينية الكل شركاء بلا أسماء ولا هويات فرعية.
حكماء ديانا أسسوا مدينة خالدة لأولادهم وأحفادهم،
يوم كان آخرون يهدمون في مدن آخرى ويخربون المستقبل.
ظلت ديانا آمنة وحالمة وسعيدة يوم كان ” الآخرون” يمارسون الموت،
وستظل كذلك لأنها لا تعرف الكراهية والانتقام والثأر،
بلدة لا تعرف غير المحبة حتى عندما تحولت الى أنقاض.
لو كنا نريد نموذجا لعراق مستقبلي آمن وسعيد وهادئ،
فليس غير ديانا النموذج التي تستلقي الان في سهل دشتا ديان الربيعي المشرق المحروس بجبل زوزك وجبل هندرين وتلوح في البعيد جبال بلدة ميركة سور Merga Sur، جبال شيرين وبيران وبرادوست على الحدود التركية ،
في عزلة ونقاء وصفاء المدن الأولى وأجمل من بلدة ماكوندا في مئة عام من العزلة لــــ غابريل غارسيا ماركيز مع الامل ان يخرج الادب من الاماكن المغلقة كالمقهى والحانة والصالة والمشرحة وثرثرة المثقفين وحروب الديكة الى الامكنة المفتوحة النقية حيث الحياة هناك، بالضبط هناك.