زوال آيديولوجيات وبقاء مبولة الباب الشرقي

حمزة الحسن

” إن الرواية التي لا تكتشف عنصرًا مجهولا في الوجود، هي رواية لا أخلاقية. فالمعرفة هي سمة أخلاقية … من المؤسف ان تصبح معايير الشرطي نموذجا للاخلاق ”
__ ميلان كونديرا اخلاقيات الرواية.

جميع نظم الحكم في العراق
الملكية والجمهورية،
عملت وحاولت التأسيس
لتقاليد وطقوس كالاحتفالات واالاناشيد وحفلات التكريم والمسيرات
والاعياد الوطنية وحتى احتفالات ميلاد القائد والنشيد الوطني والسلام الجمهوري،
ما يسمى عيد” الثورة” أو يوم تأسيس الحزب أو المؤسس،
إلا هذه السلطة اليوم،
وعلى العكس من ذلك هناك التقاليد والطقوس المكررة والدينية غالباً
تتواجد في أطراف السلطة وليس في المركز،
وهي تقوم على خلفيات تاريخية واجتماعية.
لكن النظام السياسي اليوم غير معني بخلق تقاليد وطنية
لغياب الدولة الوطنية في التأسيس والأصل،
نتيجة وعي دقيق في أن قصة هذا النظام زائلة لا تحتاج إلى تأصيل وتأسيس،
لأنه مشروع نهب ولصوص عثروا على كنز.
ان التقاليد صناعة واختراع تخلقها حاجات مرحلية وليست أبدية وتطورها يعكس مرحلة من التاريخ كما ان تلاشيها له اسباب قد تكون خطرة ما لم ينتبه لها المؤرخ والمثقف كما يؤكد المؤرخ اليساري البريطاني أريك هويسباوم من انزه مؤرخي العصر واستاذ التاريخ في جامعتي لندن وكامبردج في كتاب” إختراع التقاليد ” . ماضي أي شعب ليس موجوداً في بطون الكتب فحسب، خاصة التاريخ التخيلي المروي رغبياً ، بل في التقاليد، ومن هنا ضرورة الانتباه الى اختفاء او بقاء التقاليد لانها قد تعكس تاريخا ملفقاً يتحول الى تقاليد وأعراف وقوانين وأخلاق ومؤسسات .
جميع تقاليد وطقوس واعراف وعادات واحتفالات نظم الحكم المتعاقبة إختفت تماماً لانها لم تكن استجابة لحاجات حقيقية اجتماعية وسياسية واقتصادية بل تلبية لحاجات ونزوات ورغبات جماعات مؤدلجة ،
مع ما خلفته من آثار ثقافية وسياسية وإجتماعية ضارة ومخربة،
لكن من مفارقات الوضع العراقي أن محلات بغدادية حافظت على تقاليدها
وأعرافها وقواعدها وشعاراتها،
وصور مؤسسيها في حين تلاشت صور مؤسسي الأحزاب كافة
من واجهة النظام العامة.
إن محل جبار أبو الشربت ومؤسسه المرحوم الحاج عبد الجبار عبد الحسين منتصف الستينات
في نهاية شارع أبو نؤاس من جهة جسر الجمهورية وخلف مدرسة الراهبات،
لا يزال قائما منذ عقود ويديره إبنه علي عبد الجبار ــ أبو وطن،
بالنكهة الخاصة نفسها وتقاليد الخلطة نفسها من الزبيب الطبيعي،
وكما للاحزاب المنقرضة فرع،
للمحل فروع وتطور الى مطاعم فرعه الأول :
مقابل لحوم محمد ديوان،
والفرع الثاني مقابل مجمع الكرادة التجاري مقابل شارع العطار بالكرادة.
أما محل شربت أو” مرطبات الحاج زبالة” في شارع الرشيد،
ومؤسسه المرحوم الحاج عبد الغفور ـــ زبالة،
فلا تزال صور المؤسس تزين المحل كما تزين صور مؤسس محل جبار أبو الشربت،
في حين إختفت صور لمؤسسي الأحزاب الثورية،
وبعضهم لم يحصل على قبر،
وتاريخ المحل هو تاريخ شارع الرشيد وبغداد،
ويتولى أحفاده اليوم إدارة المحل ومنهم محمد الحاج،
تأسس المحل عام 1900 أي قبل تأسيس الدولة العراقية عام 1921،
التي إنقرضت مرات وظل المحل،
وهو تأسس قبل تأسيس نصف دول العالم العربي وكل دول الخليج.
وكل من شرب منه من الزعماء والملوك إما قتل مثل الزعيم قاسم، وعبد السلام عارف،
أو نوري السعيد أو صدام حسين ، أو أطيح به
كالرئيس المصري حسني مبارك،
والمحل مستمر حتى اليوم بالشعارات نفسها،
الجودة والثقة والنكهة الطيبة والمفارقة أن مقهى” البرلمان” ملتقي النخبة الأدبية الرصينة في الستينات والسبعينات والخ ، وهو مقابل محل الشربت ، إختفى وتحول اليوم الى مطعم ، في حين ما يزال المحل ينعش الزبائن بشربت الزبيب وخلطته السرية التي عجز متلصصو ومنافسو المحل من فك شفرتها العجيبة فلا هي زبيب مركز ولا شربت طبيعي .
أما مطعم باجة الحاتي فتأسس عام 1935 من قبل السيد إبراهيم العامري المؤسس،
وكان مكانه الأول شارع الشيخ عمر
بعد عام من تأسيس الحزب الشيوعي عام 1934،
قبل ولادة صدام عام 1937.
من أشهر رواد المطعم رئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي نوري السعيد وكذلك الزعيم عبد الكريم قاسم والرئيس عبد السلام عارف والكثير غيرهم،
ولا حاجة للتذكير أن هؤلاء قتلوا جميعاً.
بعد وفاة المؤسس المرحوم ابراهيم تولى ابنه قحطان إبراهيم الحاتي ادارة فروع المطعم.
للمطعم فروع أيضاً، اشهرها:
مطعم باجة الحاتي في منطقة الكرادة في بغداد قرب المسرح الوطني.
في كل نظم العالم هناك تقاليد وطنية وتاريخية متوارثة يجري الاحتفال بها في روسيا
والصين وبريطانيا وفرنسا ودول أخرى،
لأن الانسان دون أن يتموضع في تاريخ وذاكرة ورموز وجذور يبقى معلقاً،
وأول عمل قامت به سلطة الاحتلال لخلق هوية جديدة وتاريخ مغاير
هو محو ونهب الاثار وحرق السجلات وتغيير اسماء الشوارع وهو عمل خبيث يستهدف تخريب ذاكرة وبناء اخرى مزيفة ،
دون أن يعني هذا أبدية التقاليد دون تحديث وتطوير.
من العجيب ان العراقي بصورة عامة قد يرى زوال وخراب الامكنة ويدهش لكنه لا يحدق في ذاته لكي يرى الخراب الاكبر والسبب ان قدرة فحص وتامل الذات معطلة والاسباب كثيرة وأهم سبب أن الذات القهرية المصنَعة المزيفة لا تملك هذه القدرة المذهلة، أي مَلَكة فحص الذات بالذات ورؤية العقل بالعقل ويطرح الشخص نفسه موضوعا للسؤال لكنه يعفي نفسه والوسط القريب منه من الاخطاء والخطايا ويفعل ما يرغب ويبرره وكل المبادئ الاخلاقية لا تنطبق عليه لكنه يتحول الى شرطي متلصص على الاخرين لان ذاته المزيفة تصنع صورة مضخمة له وتعايش مع هذه الصورة ومع الزمن نسى انها قناع وكل قناع هو انتحار بتعبير الفيلسوف جيل دولوز ولايثق ولا يحب الاخرين لانه لا يحب نفسه ولا يثق بها وهذ لغز هوسه الاستعراضي بالواجهات كصاحب بر وقضية في تحايل الرذيلة عندما ترتدي ثوب الفضيلة وفي الواقع هو يستغيث .
انه يرى العالم بطريقة مخيفة ومقلوبة ومقلقة من الداخل الى الخارج بذهنية بصرية، مثل كل المخلوقات، لكنه لا يرى انعكاسات الخارج على الداخل لان هذا يتطلب عقلاً حراً وذاتاً طبيعية. لا يرى حطامه لانه في وسط يتحطم معه ببطءء ويظهر هذا التهديم المشترك كحالة طبيعية لكنه يكتشف خرابه لو وجد نفسه في بيئة نظيفة مختلفة ومعايير سوية وحتى في هذه الحالة قد تمنعه الانا المتضخمة وتحجب عنه الحقائق لان هذه الانا ستكون في فراغ موحش وبلا جسد في حال اكتشاف الانا الطبيعية المدفونة.
لكي نختتم هناك مبولة عمومية في الباب الشرقي جوار حديقة الامة ومقابل سينما غرناطة وكازينو من طابقين والطابق العلوي للخلوات السرية الغرامية،
المبولة تأسست في العهد الملكي،
وزالت الملكية ومعها جمهوريات،
والمبولة قائمة حتى اليوم:
هل هناك مفارقة عجيبة ومثيرة للسخرية
اكثر من أن آيديولوجيات متسلطة تسببت في خراب بلاد حتى اليوم ومقتل الاف الناس،
تزول ومبولة تبقى؟
ما نوع هذه الايديولوجيا؟
تاريخ العراق القرمزي يبشر في أن قبور زعماء اليوم
ستتحول الى مباول،
فلا قداسة ولا بطيخ في تاريخنا الحافل بالانقلابات،
هناك لحظة تراكم الوجع والصبر الطويل عندما يصلها العراقي،
تصبح عنده لحية الشيخ مكنسة وهو الانسان الوحيد في العالم الذي يشق الزيق من الطول للطول ويعوي ووجهه للاعلى كذئب على قمر بعيد من تراكم الوجع وهي سلسلة لحظات وموجات بفواصل زمنية :
لحظة الخاسر كل شيء ولحظة الجنون و لحظة الانفجار ثم العبور الى لحظة اللاخسارة وهي اللحظة التي تتساوى فيها الحياة والموت والبطولة والانتحار ويتحول الياس الى امل :
هذا هو تاريخ البشرية .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here