تسليع وحوكمة الهجرات القسرية للنخب والكوادر!

هايل علي المذابي

في كتابه “أمة من المهاجرين” صنّف الرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندي الهجرة إلى ثلاثة أنواع ويعدد أسبابها على النحو التالي: “الهجرة هروباً من استبداد سياسي؛ الهجرة هروباً من اضطهاد ديني؛ والهجرة هروباً من ضغوط اقتصادية”.

ولم يحدث مطلقاً أن قامت أي دولة في العالم بتهجير أفرادها إلا في حالتين فقط الأولى عندما كانت أسواق الرق وتجارته شائعة في العالم؛ والثانية ربما لم تتجاوز حالة واحدة فقط وهي تلك التي أعلن فيها الرئيس الكوبي فيدل كاسترو إلغاء الحظر عن الهجرة إلى أمريكا بعد إعلان الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر أن أبواب أمريكا مفتوحة أمام المهاجرين الكوبيين وسوف يتم استقبالهم وإكرامهم وإحسان وفادتهم فجاءه الرد عاجلا من الرئيس الكوبي بغرض إحراجه، ويومها تم ترحيل قرابة 125 ألف مهاجر على متن 600 قارب عبر ميناء ماريل الكوبي برعاية وإشراف السلطات الكوبية؛ وقد تعمد كاسترو جمع وإخراج أعتى المجرمين من السجون والشوارع يومها لتهجيرهم إلى أمريكا؛ وكان عددهم حوالي 25 ألفا وعندما وصلت القوارب إلى سواحل أمريكا امتنعت السلطات الأمريكية عن السماح لهم بدخول أراضيها لكن أولئك المجرمين وعددهم 25 ألفا استطاعوا النفاذ والدخول، وأما معظم من بقي على متن القوارب فقد ظلوا لأسابيع في عرض البحر حتى أصبح معظمهم جثثاً؛ وقد تسببت هذه الحادثة في عزل وخسارة الرئيس الأمريكي صاحب الإعلان في الدورة الانتخابية مباشرة؛ وتدهور الاقتصاد الأمريكي وانتعش اقتصاد كوبا بشكل ملفت جدا بعد إفراغها من المجرمين وهو ما أدى إلى غضب أمريكي على رئيسهم كارتر وتنصيب ريغان خلفا له. وقد قال يومها بعض المراقبين لو أن أولئك المجرمين الكوبيين الذي تم تهجيرهم إلى أمريكا ظلوا في كوبا لما مضى غير وقت قليل حتى انهار الاقتصاد الكوبي كلياً ويسقط فيدل كاسترو وحكومته.

اليوم هناك من ينادي بحوكمة الهجرة القسرية للنخب العلمية والفكرية والثقافية وتسليعها مثل بزنس المقابر والاستثمار في عالم الموتى؛ أي أن عملية تسليع النخب الثقافية والفكرية والعلمية واستثمار هجراتها القسرية وحوكمتها تشبه تحويل المؤسسات العلمية والأكاديمية والثقافية إلى نوادٍ رياضية بحيث يتم بيع النخب مثلما يباع اللاعبون الرياضيون في نوادي المحترفين لكرة القدم؛ لزيادة دخل البلاد من العملات الأجنبية وإنقاذها من الإفلاس؛ ولو أنهم رأوا رؤية فيدل كاسترو الذي أفرغ كل المجرمين من كوبا لكان في ذلك ما يدعو إلى التفاؤل أما تهجير النخب والكوادر فهو ما يضع البلاد في أدنى السلم.

لقد كانت الدول العظمى في أوقات الحروب لا تسمح بهجرة الكوادر والنخب مطلقا بسبب رؤية مستقبلية مفادها أن الحروب والأزمات ستنتهي حتماً، ولكن بعد أن تنتهي من سيقوم بإعادة بناء البلاد وإقامة مؤسساتها وإعادة تحريك عجلة التنمية فيها؟ ولأجل ذلك أخترعت بعض هذه الدول يومها ما نسميه جوازات السفر لا لشيء إلا لكشف الأفراد عن مهنتهم في هذه الوثيقة لتسهيل عملية القبول والاختيار لمن يسمح لهم بالهجرة ومن لا يسمح لهم..

وبلا شك لو تحقق ما سمعنا به مؤخرا من أصوات حوكمة الهجرات للنخب والكوادر واستمر الأمر على ذلك النحو فسينتهي بإنشاء بورصة لتداول أسهم النخب والاستثمار فيها وتسليعها شأنها شأن باقي السلع التي يتم المضاربة في أسهمها على منصات التداول العالمية وعلى رأسها “وول ستريت” وحينها ستصبح البلاد العربية مفلسة مرتين إفلاسا ماديا وإفلاسا علميا وفكريا وثقافيا ونخبوياً.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here