المتلصص : قصة قصيرة

المتلصص : قصة قصيرة

بقلم مهدي قاسم

من عادتي المزمنة ــ ولا زالت قائمة حتى الآن ــ كنت غالبا ما اجلس في مقهاي المفضل ، بعد مشية رياضية طويلة لحد الإرهاق ــ لأتلذذ باحتساء فنجان قهوتي المكثفة الصافية من الحليب و الطيبة بنكهتها العبقة .. بارتشاف بطيء ، متأن ، بطقسية خاصة تشبه تقريبا أسلوب اليابانيين في شرب الشاي .. كنتُ أفعل ذلك حتى مساء متأخر ، بعدما أكون قد أخرجت من جعبتي كتابا أقوم بمطالعته باستغراق تام ..

أثناء ذلك كنت أشعر أحيانا كأن ثمة شخصا مجهولا يتصردني متلصصا عليّ من بعد بعيد ، مثل ظل غامض يظهر و يختفي سريعا ، كان يحدث مرارا أن أراه عابرا ملتفتا نحوي بالتفاتة حادة ، وهو يحدق في وجهي بفضول واهتمام ثم يمضي و ثمة ابتسامة معوجة وباهتة ترتسم على وجهه متلاشية بنفس السرعة ، وفي أحيان أخرى كان يقوم ببعض حركات كما لو كان موشكا على أن يتقدم مني و يتحدث معي وهو يعرقل خطواتي في السير ، آنذاك كنت أبذل جهدا لكي اتجنبه أو أن أجعل فرصة الحديث فيما بيننا تتملص من خلال تقدمي حثيثا ، مستقيما ، متجاوزا ، متظاهرا بعد ملاحظته ..

كانت ملامح وجهه التي حفرتها أزمنة غابرة ثقوبا و ندوبا عميقة توحي بتجهم و شرسة معبرة عن سحنة منفرّة ، لا تدعو إلى شعور باطمئنان و ارتياح عفويين إطلاقا ، من جراء حضوره المفاجئ و الكاسح ، ليس فقط بسبب تلك السحنة المنفرة ، إنما بفعل إحساس المرء بانعكاس ذبذبات باردة ، كامدة تأتي من داخله متسربة كثيفة ثقيلة على شكل تيار هوائي مثلج ولاسع ، بحيث تجعل المرء أن يشعر بتكدر أو بـكآبة مباغتة لبعض الوقت !..

ذات مرة و بينما أنا جالس في المقهى كعادتي وإذا بي أسمع صخبا وضجيجا مع صوت جهوري حاد أشبه بعياط وصراخ ينادي قائلا ــ :

ــ هيي أنت أيتها النادلة غير المبالية لماذا لا تأتين وتسأليني ماذا أطلب ؟..

أسرعت إليه النادلة معتذرة وهي تحاول أفهمه بأن عليها أن تلبي طلبات الزبائن الذين جاءوا قبله و أنها ستلبي طلبه فورا ، و أنها أسفة حقا ، طالبة منه قليلا من صبر وتفهم الأمر ..

كان ” هو ” إذن هو بالذات ” رَجُل الترصد والتلصص ” ، إذ رأيته جالسا مقابلي تماما في هذه المرة ، لا تفصل بين طاولتينا غير امتار فقط ، و عندما لاحظ أنظر باتجاهه بسبب الضجيج الذي أحدثه مع النادلة ، خاطبني مباشرة وهو يخبط على الطاولة بامتعاض مفتعل :

ــ يا له من إهمال و استسخاف بحق الضيوف …

لم أعلق أو أرد على شكوته المفتعلة ، إنما حوّلت نظراتي نحو سطور الكتاب لأواصل القراءة ، ولكن بعض مرور لحظات قصيرة ، سمعتُ ضجيجا من جديد ،على شكل قرقعة مزعجة أحدثتها أرجل كراسي وطاولات ، رفعت رأسي مجددا و إذا به يزيح الكراسي والطاولات التي أمامه ليشق طريقه نحوي ، وبينما كنت أنا بين دهشة و استغراب كم أسقط في يده وإذا به يحاول الجلوس على أحد الكراسي حول طاولتي قائلا :

ــ هل ممكن ؟ .. ــ وكان قد جلس دون انتظار موافقتي وواصل بصوته المدوي ــ اسف للازعاج أنا أعرفك ، بينما أنت لا تعرفني ، الحقيقة عندي مشكلة قضائية أحب أن أخذ استشارتك القانونية و ..

قاطعته بنبرة جفاء و لامبالية :

ـ ولكنني لستُ محاميا مختصا ..

ــ أنت أفضل من أي محام آخر ! .. عندك خبرة طويلة في القضاء !.. أنا أعرف ذلك و سمعت عنك كثيرا ..

أجبته بنبرة غير متحمسة تدل على ضيق وتبرم :

ــ طيب .. تفضّل ! .. ما هي طبيعة قضيتك ..

نظر إلى ساعته محاولا أن يبتسم بلطف ماروغ ومداهن لكسب رضاي قائلا بنبرة خطابية منبرية عالية ومتعلعلة ــ

ـــ هههه .. لا زال الوقت مبكرا .. إلى أين مستعجل ؟ ..هل رأيت كيف رفضت النادلة خدمتي .. أكيد تعلم إن أهل هذا البلد أوسخ و أسوأ الناس و لا يمكن الثقة بهم قطعا و ..

قاطعته معترضا بتعقيب واضح :

ــ لا أعتقد ذلك .. حال الناس في هذا البلد حال باقي الناس في بلدان ومجتمعات أخرى ، من حيث يوجد بينهم مَن هو جيد ومن هو سيء .

قلت ذلك و رجعتُ أطالع من جديد ، وأنا ابتسم له بدافع اللياقة فحسب ..

ولكنه لم يتركني وشأني فصاح من جديد وهو ينقر على الطاولة بأصبعه بدقات قوية ومتتالية كأنما ليلفت انتباهي وبدا متضايقا ونافد صبر ــ

ــ شوف أحب أن أنصحك بأن تترك عادة القراءة هذ و إلى الأبد !..فالقراءة مضرة للعين .. ستفقد نور عينيك عاجلا أو آجلا !.. أنظر إليّ جيدا فهل أنا أرتدي نظرة طبية .. طبعا لا .. وهل نظري ضعيف ، طبعا لا .. حتى أنه لا زال قويا جدا والحمد لله !..

دمدمت و أنا أتقصد لكي لا يكون ردي طويلا مسهبا أو تبريريا مشجعا حتى لا يشعر و كأنني أرفع الكلفة معه و أجاريه في الحديث أو إعطاءه فرصة تعارف وصداقة فدمدمتُ :

ــ لا يهمني الأمر قطعا !.. ولكنك لم تقل لي بعد ما هي قضيتك ؟ ..

غير أنه بدلا من أن يوضح ما هي قضيته ، كرر بأن الوقت لا زال مبكرا ، ثم عاد ليسأل مجددا بنبرة فيها شيء مزيج من قلق واستياء وحرص مفتعل ، ولكنه بدا مهتاجا وعصبيا أكثر لسبب ما ، وهو يمسح وجهه المعرق براحة يده حيث كان جبينه ينز بقطرات عرق غريزة مثل جياد متعبة تصعد مرتفعات حادة فسأل مجددا :

ــ طيب لماذا تقرأ كثيرا ؟ ..فأنا كلما امر من جانب المقهى أراك مستغرقا بالقراءة تماما ..

أجبته بلهجة جدية فيها سخرية مبطنة لم يفطن لها :

ـــ لإنني مدمن على القراءة إدمانا شديدا جدا !.. لكوني استمتع بها جدا ..

وإذا به يدهشني بسؤال آخر بحيث تحتم علي أن بذل جهدا كبيرا لسيطرة على نفسي لكي لا أقهقه بصوت عال ، فسألني باهتمام وفضول :

ـــ لماذا لا تذهب إلى الطبيب ؟ .. ممكن يكتب لك دواء أو علاجا ليشفيك من إدمانك !..

ــ ذهبتُ إلى الطبيب بعدما فحصني ، خرج بتشخيص ما معناه أن إدماني وراثي جناتيا ..وليس له أي علاج فعّال يُذكر .. بل أسوأ من كل هذا أنه من ممكن أن يكون معديا أيضا إذا اقترب مني شخص ما اقترابا شديدا ..

فصاح بصوته الجهوري والحاد وهو يقوم بحركة تراجع و تقهقر للخلف كأنما ليبتعد عني ، فصاح نبرة عالية وحادة طغت على أجواء المقهى لدرجة كانت النادلة و ثمة زبائن التفتوا نحونا بقلق ، شعورا منهم بأننا على وشك قيام بعراك أو مشاجرة عنيفة ، فصاح هو متعجبا .

:

ـ يا للمسكين ! .. أنا عرفتُ إن وضعك ليس طبيعيا ــ وأضاف هو يخيطني بنظرة شفقة ــ حقيقة .. أني لازم أروح ..الآن تذكرت إنه عندي موعد.. يلا ..مع السلامة ..

و قبل أن يغادر المقهى نهائيا التفت نحوي وصاح بنفس الصوت الملعلع وذات النبرة الحادة والرفيعة ولكن في هذه المرة بصيغة نصيحة أبوية حاسمة و آمرة :

ــ روح للخارج وعالج نفسك من هذا العدمان ــ يقصد الإدمان ــ وإلا ستفقد نور عينيك من جراء القراءة المتواصلة والدائمة !..

بعدما خرج ” هو ” من المقهى وغاب نهائيا ، ألقت نادلة المقهى عليَّ نظرة مستفهمة وهي تهز رأسها بسخط و عدم ارتياح ، كأنما تضامنا معي ،فابتسمت لها بلطف ولياقة ، ورجعت لأواصل القراءة وأنا أرتشف أخر ثمالة من قطرات القهوة التي احتفظت بنكتها الطيبة رغم أنها باتت باردة الآن ..

و خيم الصمت المعتاد مجددا على أجواء المقهى تتخللها أنغام موسيقية خافتة و أحاديث الرواد العادية مع رنين أقداح وفناجين تجري عملية ملئها بالمشروبات أو غسلها بين وقت وآخر لتكون جاهزة للخدمة ..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here