الدولة الميكافيلية..و دولة الشبوط الحضارية الحديثة

امجد طليع

الدولة الحضارية مسمى حديث مثير للجدل، ووفقا لموسوعة يوكيبيديا فانه كمصطلح اول من وصفت به الصين واطلقه عليها الصحفي جاك مارتن صاحب كتاب (عندما تحكم الصين العالم) وهو مسمى نقيض الدولة القومية التي تحدد بمنطقة جغرافية ولغة معينتين، والدولة الحضارية تعني دولة متعددة الثقافات.

ومصطلح (دولة حديثة) يطلق على كل دولة تتكون من (ارض وسكان وسلطة) ويعود تاريخ هذا المصطلح الى اكثر من اربعة قرون.حيث دعى السيد محمد عبد الجبار الشبوط ويثقف جاهدا الى فكرة او فرضية قيام الدولة الحضارية الحديثة في العراق (عملية دمج لفكرتين تكونتا نتيجة تطور الفكر الفلسفي السياسي) وعد هذه الفرضية وسيلته لخلاص البلاد من المأزق الذي تمر به منذ 20 عاما وفشل المشروع الامريكي في العراق على يد احزاب الاسلام السياسي السنية والشيعية والاحزاب القومية الكردية.

محمد الشبوط زامن تاسيس العملية السياسية بالعراق ما بعد 2003 مرة مشاركا ومرة قياديا في موسسة اعلام الدولة الجديدة شبكة الاعلام العراقي حيث تراس جريدة الصباح كما عين عضوا في مجلس امناء شبكة الاعلام العراقي ورئيسا لها لقرابة اربعة اعوام او اكثر .

ناشط بارز

ينحدر الشبوط من خلفية ايدلوجية اسلامية وواحد من مفكري حزب الدعوة الاسلامية والاسلام السياسي الحديث بصورة عامة وكان ناشط بارز في المعارضة للنظام البائد ثم غادر الدعوة وشارك في تيار الاسلام الديمقراطي الذي لم يترك بصمة في العمل السياسي العراقي وسبق له ان رشح مع حزب الدعوة لعضوية مجلس النواب لكنه لم يفلح بكسب اصوات الناخبين شانه شان الكثير من المثقفين الذين حاولوا الوصول الى السلطة التشريعية لكنهم صدموا بخيارات الجمهور الذي يضع بينه وبين المثقفين حاجزا من حديد.

يعزو الشبوط فشل مشروع الديمقراطية في العراق الى ما يسميه بعيوب التاسيس وهي محاولة منه لتبرءة احزاب الاسلام السياسي من كل خطاياها بحق البلاد ويحاول الشبوط البحث في نصوص تشريعية ليجعلها سبب في فشل التجربة لاثبات فكرة عيوب التاسيس دون ان يقترب من القيادات الحزبية التي لا تملك خبرة وتورطت في ادارة بلد معقد مثل العراق، وتاتي فرضيته (الدولة الحضارية الحديثة) وكل حلقاتها في سياق الدفاع عن الاسلام السياسي ورجالاته (رفاق الدرب) باعتبار ان دولة المكونات قد اعلنت فشلها ولابد من ايجاد البديل.وكوني عملت مع الشبوط لسنوات لمست الليبرالية في روح وقلبه وهام بها في المهجر واعجب بالنظم العلمانية بكل تفاصيلها، لكن جذوره التاريخية تقيد عقله داخل الاطار الديني، وتجربة الاسلام الديمقراطي التي خاضها من وجهة نظري محاولة انعتاق من الجذور التاريخية رغم فشلها المبكر.تجربة الشبوط الاعلامية والكتابية دائما محل ثناء واحترام من قبل المختصين اما على المستوى الاداري فانه لم يختلف عن اقرانه في العمل الاداري وواحد من اكبر خطاياه في شبكة الاعلام العراقي هو تغيير قانونها رقم 66 المشرع في زمن الحاكم الامريكي بول بريمر واستبدله بقانون 26 للعام 2013 الذي ادخل شبكة الاعلام في دوامة صراع اداري بسبب تقاسم صلاحيات ادارة الشبكة بين الامناء والرئيس كما فتح باب المحاصصة واسعا في هذه المؤسسة المحايدة التي كانت عصية على التحاصص حتى وصول الشبوط الى رئاستها وتشريعه الذي يعمل به حتى الان.

واذا عدنا لموضوعنا فنظريا مفهوما الدولة (الحضارية والحديثة) ينطبقا على العراق منذ استقلاله او منذ تاسيسه على يد البريطانيين ما بعد العام 1920 اي ان العراق خريطة سياسية لدولة يتكون من (ارض وسكان وسلطة.. الخ) وكذلك (متعدد الثقافات) اذ دافعت المكونات الاجتماعية العراقية عن ثقافاتها في احلك الظروف ولطالما ادعت الانظمة الحاكمة احترامها لتلك الثقافات وان من واجبها الحفاظ عليها.

اما ما بعد عام 2003 فنظريا نحن دولة حضارية حديثة اما عمليا فنحن داخل فوضى لا يمكن ان توصف بانها دولة وهنا لابد ان نسأل

اذا لم يكن العراق حاليا دولة فما السبب؟

واذا لم يكن دولة فما وصفه؟

لنبدأ بالسؤال الثاني حيث ارى ان العراق حاليا يعيش في مرحلة تاريخية ما قبل القرن السابع عشر ، حينما كانت الكيانات التقليدية قائمة وتوصف بالامبراطوريات والمماليك والامارات والسلطات، وهذه الكيانات يتقاسم ادارتها الاثرياء والاقوياء والكهنة، لكن كياننا الحالي مشوه عبارة عن خليط من الجمهورية والاقطاعية والدينية والعلمانية انتجته الكلبتوقراطية الحاكمة، واستخدموا هذا الخليط ليحصلوا على الشرعية الدولية على انهم في دولة حديثة تتوفر فيها اركان اتفاقية مونتفيديو لعام 1933 التي ثبتت تلك الاركان رسميا (الارض، السكان، السلطة، الدستور، العلاقات الدولية، العملة).اما فيما يخص السؤال الاول عن سبب عدم وجود دولة فان الخلل يكمن في بنية المجتمع العراقي، والكثير منه لا يؤمن بالكيان القائم حاليا وتنشطر اراء مكوناته باتجاهات متنافرة او متصادمة.

المكون الكوردي لا يجد نفسه منتميا الى الكيان العراقي وهو في حالة نفور دائم منذ ان اسس البريطانيون كيان العراق قبل 100 عام.والمكون السني لا يجد نفسه تحت سلطة غير السني ولتصورات السنة اسباب جغرافية وتاريخية ولذا تعد الدولة المرجعية للسنة وحاكمها ولي الامر، وهذا يجعلهم بتقاطع مع الشيعة الذين يمهدون لدولة القائم ويعتقدون ببطلان اي دولة مالم يكن حاكمها من ال البيت، ويسيرون حياتهم في ظل غيابه من خلال وكلائه المجتهدين كمراجع في العبادات والمعاملات.قد تكون هذه معتقدات قومية او مذهبية لكنها تضرب بعمق البنية الاجتماعية العراقية وبلغ هذا التنافر والتصادم ما بعد 2003 ذروته بعد ان استيقظت تلك المشاعر بين العراقيين حيث اختفت او تم اخفائها قانونيا قبل ان ينهار العراق البريطاني كما يسميه حسن العلوي في 2003 حيث جبروت السلطة القائمة ما بعد 1963 يمنع من ان تطفوا هذه المعتقدات الى السطح، وما قبلها كانت مراحل تكوين الدولة سواء على يد النظام الملكي او القاسمي وربما كانت حاضرة في العمل السياسي لكن حضورها ليس كما عليه اليوم لدرجة ان الباحثين والمؤرخين يختلفون على شكلها وتاثيرها لكنها بالمجمل لم تتمكن من تاثير في كيان الدولة الاداري.وبعد الحديث عن (دولة الشبوط الحضارية الحديثة) اصطلاحا (عمليا ونظريا) لابد ان نعرج على مركب الشبوط الحضاري وعناصره الخمس المكونة لبنية هذه الدولة المفترضة وهي :

(الانسان، الارض، الطبيعة، الزمن، العلم، العمل)، حيث يضع الشبوط مجاميع من القيم، كل مجموعة مرتبطة بمكون من مكونات المركب الحضاري وهذه المجاميع متشابكة بعلاقاتها مثلا القيم المرتبطة بالانسان تتعلق بالعلاقات الانسانية وهي بالضرور قد ترتبط بالقيم المتعلقة بالطبيعة وهكذا.والقيم معايير ضابطة للسلوك البشري وهي نتاج وعي وتربية صحيحة.ومادمنا نعيش بكيان قادم من القرن السابع عشر كما قلنا سابقا فان هذه المرحلة من الزمن لم تكن القيم الانسانية قد وصلت الى السمو في التسامح وتقبل الاخر والحفاظ على البيئة واحترام العمل وتطور التعليم كما هي عليه اليوم لا سيما في اوروبا الحديثة التي عاش الشبوط في ظلها لعقود.قيم المجتمع العراقي في تراجع كبير امام شيوع التوحش والعودة الى العشائرية والسلوكيات الرجعية.وقبل الخوض بالحديث عن الحضارة والحداثة كما يطرح الشبوط نظريته .لابد من تذكير السيد الشبوط بانه علينا اولا ان نستعيد الدولة واستعادة دولة تعيش وضع معقد مثل العراق مسجلة بالامم المتحدة نظريا دولة وعمليا فوضى يسودها النزاعات والفساد وتعطل القوانين والدستور امر صعب وما يفاقم صعوبته تحول الاحزاب السياسية الى كارتلات مسلحة متحالفة تتقاسم واردات البلاد وتضطهد الناس، ومسالة عبور مرحلتها بالتنظير الناعم امر مستحيل المنال حسب وجهة نظري وبقياس الواقع وانما تحتاج الى حلول تدريجية سريعة خشنة، انها تحتاج الى فكرة (ميكافلية الدولة) تكون واقعية بعيدا عن مثاليات السيد محمد عبد الجبار الشبوط. فالشبوط وقع في فخين لا يمكن له ان يخرج منهما بدولة حديثة متعددة الثقافات ويعيش ابناء شعبها مواطنين متساوين بالحقوق والواجبات.

الفخ الاول المثالية ولا وجود للمثالية سوى في الكتب الدينية حين تصف الالهة اوكتب الفلاسفة الميتافيزيقيين.

دول علمانية

الفخ الثاني التعكز على الدين ومعظم الدول الحضارية الحديثة القائمة في عصرنا الحالي دول علمانية لا دين لها تحكمها القوانين الوضعية تحترم معتقدات الافراد وتدعم المؤسسات الدينية وتحمي وتضمن حق الجماعات باقامة شعائرها وطقوسها بالتساوي، فيما يستند الشبوط على دلائل دينية لا تختلف ضمنا مع ما هو سائد الان.

ربما سيقول البعض باني اريد ان اعارض مذهب الشبوط السياسي المثالي وادعم المذهب الميكافيلي المبشر بالطغاة، وانا لا ارى الامر بهذا التصور، وانما انا اتشارك مع ميكافيلي باثنين مادام الرجل ابن القرن السادس عشر حيث كانت الانظمة القائمة انذاك تشبه العراق اليوم، في عصر ميكافيلي زامن ايطاليا ضعيفة ممزقة تتنافر مكونات مجتمعها وتتصادم ولذلك دعى الى دولة قوية قادرة على ادارة امور الشعب وحماية نفسها واباح للحاكم القيام باعمال عنيفة تعيد الناس لصوابها (تعبير مجازي للكاتب) واراد دولة قومية جامعة للايطاليين وهذا ضروري فالدولة القومية مهدت الى الدولة الحضارية ولم تنزل الدولة الحضارية من السماء كما يريد الشبوط لمجتمع يعاني خلل بنيوي، وبذروة نشوء الميكافيلية حب ميكافيلي لايطاليا بصورة عامة ولمدينته فلورنسا بصورة خاصة، صحيح انه اشاد بالنظام الاميري لكن فكره كان ينصب على النظام الجمهوري كون فلورنسا مسقط راسه كانت جمهورية تحت حكم ال لورينزو.

ولذلك كان ميكافيلي مغرم بفلورنسا الجمهورية العلمانية الحرة وسط صراع مماليك تدعي القدسية مثل روما ونابولي وغيرهما تهددها الحروب وتثير اطماع البابوات الذين طالما فسقوا اهلها وكفروا زعمائها كما طمع بها امراء المماليك الايطالية الاخرى بسبب ثرائها وريادة موقعها وتعد مركزا للفكر والفن.

الميكافيلية اليوم موجودة حتى في دول الرفاه شمال اوروبا لكنها ليست ميكافيلية الحاكم وانما ميكافيلية الدولة هي الشخص المعنوي الذي تبرر لمؤسساتها القيام بأي عمل لتبقى قوية ونظامها قائم وهويتها محفوظة حتى لو كان ذلك العمل مخالفاً للاخلاق ما دام يفرض القانون.

والميكافلية العراقية يراد لها ان تصفر التصادم والتنافر الاجتماعي وتستاصله لتعيد اندماج الاطياف مع بعضها سياسيا وتحل بين افرادها ثقافة المصلحة العامة بديلا عن المذهبية والقومية وتصيغ لهم هوية وطنية جامعة، ومع تصفير الازمات والعُقد الاجتماعية ومعالجة الخلل البنيوي تبدأ السلطة بالمرحلة الميكافيلية بضبط الامن واحتكار العنف وتوحيد القوى الامنية، و بتنمية الوعي والاهتمام بالتربية والتعليم يمكن الحد من العشائرية او منغصات امنية وسياسية اخرى كأن تكون طائفية اوقومية، والشروع ببناء مجتمع يمهد للمرحلة ما بعد الميكافيلية تنقلنا تدريجيا الى القرن السابع عشر وعصر الانوار ودخول مرحلة العَقد الاجتماعي والشروع بكتابة دستور ينقل العراق من منطقة الدولة الحديثة الى منطقة الدولة الحضارية الحديثة وفق اتفاق شعبي يضمن لورثتنا حياة كريمة ودولة مساواة وتعددية، على ان لا تكون بمقاييس الشبوط وانما بمقاييس وضعية مجردة من الايدلوجيات وتشتق شرائعها من مواثيق الامم المتحدة والتجارب المشابهة، تؤسس دولة محايدة دينيا وعقائديا وفكريا وللافراد فيها تكفل حرية الدين والمعتقد والفكر، وتحديد شكل نظام بسيط يحقق مبدأ المساواة ويفرض الواجبات ويحمي حقوق المواطنين ويحمي الدولة من العودة الى دكتاتورية الفرد او دكتاتورية الطوائف لا سيما وان هذا الامر يبقى وارد في كل عصر في ظل بقاء المسببات الداخلية والخارجية قائمة.

لم يتحدث محمد عبد الجبار الشبوط عن خط زمني لتحق دولة المركب الحضاري ولا اعلم لماذا او ربما اراد عامل الزمن ان يبقى مفتوحا باعتبار ان ما يقدمه طرحا فلسفيا تجني ثماره الاجيال القادمة وهذا سيجعل من الجيل الحالي حطبا لما هو قائم في حين ان العالم اليوم لا يتحمل النهايات المفتوحة في ظل عصر العولمة وانتقال التجارب بوتيرة اسرع من انتشار كورونا في الكوكب، ما يحصل في تونس خير مثال عندما شرع استاذ القانون الدستوري قيس سعيد رئيس الجمهورية المنتخب باعادة بناء الدولة التونسية بسلطاتها الثلاث رغم انه عمل شاق وكان يتوقع ان يكون اصعب لكن اعتقد ان تونس في الطريق الاكثر حكمة، ربما لا يمكن المقارنة بين تونس ذات الطيف الاجتماعي المتشابه تقريبا وارث سياسي يضرب به المثل بالانفتاح ومجتمع اكثر وعيا بحكم اختلاطه مع الاوربيين وجاء سعيد في ظل وجود هيكل دولة يحفظ اهم المؤسسات وابقاها على حيادها مثل الجيش والداخلية ومنظمات مجتمع مدني فعلية ومؤثرة مثل اتحاد الشغل، فهذا دليل ان السعيد قام باصلاحاته استنادا على مرتكز ميكافيلية الدولة او المتبقي منها بعد ما ذهب اليه الاسلاميون في ادارتهم لتونس ما بعد زين العابدين بن علي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here