كيف تأثر العراقيون بالسلوك الماجن لخلفائهم العباسيين ؟

كيف تأثر العراقيون بالسلوك الماجن لخلفائهم العباسيين ؟ * د. رضا العطار

اذا اردنا ان نلقي نظرة سريعة على الحياة السياسية في الدولة العباسية, فأقول عندما سقطت الدولة الاموية, لم ياسف على ذهابها احد, لكن عندما قامت الدولة العباسية بدعوى اعادة الحق الى نصابه و استبشر المسلمون بالخير وسط امال عراض في انتظار طال امده وتعطش الشعب في استقبال نسائم الحرية، كانت النفوس تواقة ان ترى ان امور المسلمين عادت الى زمن الشورى كما كانوا عليه في عهد الرسول والخلافة الراشدة . لكن الخلفاء العباسيين صارحوهم في اول يوم لقيام دولتهم بان السلطان لهم وحدهم لا يشاركهم فيه احد, يسوسونه بسلطان الله ( الذي اعطاهم اياه ) . فخابت الامال وايقن المسلمون انه لا سبيل لهم الى ممارسة السلطان في دولة الاسلام, مثلما ليس لهم ان يطالبوا بحقوق او باصلاح انما لهم ممارسة فرائضهم الدينية وطقوسهم المذهبية حسبما يشتهون.

لقد انتشر في المجتمع العباسي مظاهر التألق والتأنق في الأزياء والزيارات ومراسيم القبول واداب المائدة خاصة في الطبقات الأرستقراطية الناشئة انذاك، كما سرى بين النساء الحرائر شغفهن بالعطور النادرة، كعطر الزعفران و البنفسج و الياسمين والمسك والكافور, يأنسن بطيب عبيرها ويتبخترن بشذى عبقها الفواح و يتمسحن بدهن الزعفران من مفرقهن الى القدم , بينما اقتصرت رغبة الأسر الموفورة في تزيين بيوتهن بالورد والرياحين التي كانت تملئ الاجواء باريج نفحتها الزكية , فكانت احلى دلالة لمعاني الود والوداد مثلما كانت باعثا لألهام الشعراء بمشاعر الخصب و الخيال .

ونستطيع ان ندخل في فنون الظرف التي اشاعها الجواري، اعجابهن بالازهار وتعلقهن بها، فقد الحقن بحدائق قصور الخلفاء بساتين الورد، ليس ذلك فحسب، بل احس الشعراء في الأزهار معاني السلوى في الحب ودنوه واتصاله وجفاءه، الى غير ذلك.

كأن يحس الشاعر في معنى الورد الخجل لأحمراره ويحس آخر في هجرالحبيب سرعة ذبوله، او يحس العاشق في ورد البنفسج عودة الوصال وحرارته. وكانوا يتهادون بالزهور والرياحين دالين بها على امثال تلك المعاني، كما كان بها يحيي بعضهم بعضا.

ثم كثرت التحية عندهم بالتفاح، فكانت الجارية تترك على التفاحة اثر اخذها بفمها، وقد تشققها بالمسك والعنبر، وقد تكتب عليها بيتا تدل به على لوعتها:

وآثار وصل في هواك حفظتها — تحيات ريحان وعضات تفاح

وكن يكتبن ابيات الحب الرقيقة على الثياب والمناديل والوسائد. وكانت عريب مغنية المتوكل تلبس قميصا كُتب على وشاحه:

واني لأهواه مسيئا ومحسنا — وافضي على قلبي له بالذي يقضي

فحتى متى روح الرضا لا ينالني — وحتى متى ايام سخطك لا تمضي

كانت الجواري يتنافسن كذلك في تقديم التحف الجميلة، فقد كن قد تزودن بثقافة العصر، اذ كان منهن من ينظم الشعر نظما بديعا.

لقد كثرت حقول الورد في العهد العباسي في ضواحي بغداد, وفي هذا السياق يقول ابن الجهم:

لم يضحك الورد الا حين اعجبه — حسن الرياض وصوت الطائر الغرد

بدا فأبدت لنا الدنيا محاسنها — وراحت الراح في اثوابها الجدد

قامت بجنته ريح معطرة — تشفي القلوب من الهم والكمد

كان الناس في المجتمع العباسي يعشقون الغناء, فقد اقترنت موسيقى الطرب لديهم برقة عواطفهم وخلجات نفوسهم , حتى غدت نعيمهم المفضل , تثير فيهم البهجة والسرور الى حد كانوا يستقبلون عذوبة الألحان بالدموع . ولهذا كثرت مجالس الأنس والسمر

ورث المجتمع العباسي من حضارة الفرس قليلا مما ينفعهم وكثيرا مما يضرهم

فعم الفسق والفجور وانتشرت الحانات الليلية معظم المدن العراقي ممتلئة بالجواري والغلمان يمارس فيها اللهو المباح وغير المباح، فكان عشاق الخمرة يعبون منها ما امكنوا حتى اصبح الأدمان عليها ظاهرة اجتماعية عامة.

كان الخلفاء العباسيين شغوفين بالجواري , فكان لكل منهم جيشا منهن. فكان شغف الرشيد بالعربيات و شغف المأمون بالمسيحيات اما شغف المعتصم فكان بالغلمان والجواري التركيات الذي اضطر اخيرا الى نقل مركز الخلافة الى مدينة سامراء ليجنب اهالي بغداد شرهم واذاهم .

لقد انحدر معظم الجواري من دول وثقافات مختلفة حتى ان قسما منهن دخلن قصر الخلافه وصار بعض الخلفاء من ابنائهن , فالمنصور امه جارية حبشية والرشيد امه جارية رومية والمأمون امه جارية فارسية .

كان الرشيد يستكثر منهن في قصوره حتى تجاوز عددهن عن اربعة الاف جارية , كانت ضياء وخنث وسحر افضلهن عنده ولسان حاله:

ملك الثلاث الأنسات عناني — وحللن من قلبي بكل مكاني

مالي تطاوعني البرية كلها — واطيعهن وهن في عصياني

ما ذاك الا ان سلطان الهوى — وبه عززن اعز من سلطاني

كان بعض الجواري يحسن نظم الغزل المثير , يكتبنه على عصائبهن وثيابهن ومناديلهن

منها هذا البيت :

اتهون الحياة بلا جنون ؟ فكفوا عن ملاحقة العيون

وفي اخبار الخليفة المهدي ان جاريته اهدت اليه تفاحة بعد ان نقشت عليها

هدية مني الى المهدي — تفاحة تقطف من خدي

محمرة مصفرة طيبة — كأنها من جنة الخلد

كما روي عن الخليفة المتوكل انه رأى جارية وقد نقشت اسمه على خدها فأعجبه ذلك وطلب ان ينشد الحدث نظما ملحنا فأنطلقت شاعرة القصر عريب تغني بصحبة الأوتار

البيت التالي :

لئن اودعت خطا من المسك خدها فقد اودعت قلبي من الوجد اسطرا

لقد شاعت في بغداد قولة السوء حول الخليفة العباسي الأمين بعد ان اكتظ قصره بالغلمان , ودرءا للسمعة ارسلت اليه امه المترملة زبيده بعشرة من المقدونيات الحسناوات بعد ان البستهن ثياب الغلمان لتصرف ابنها ( امير المؤمنين ) عن سلوكه المنحرف, و على اثر ذلك ظهر في بغداد مصطلح الغلاميات وعم استعمال ثياب الذكور من قبل ساقية الحانات , لعل ذلك هو السر في ان ابا نؤاس كان كثيرا ما يذكر ضمير المذكر في غزل المؤنث .

كان الأمين مغرما بالخمرة , وكأنما كان في قلبه جذوة من الغرام بها, حيث كان لاسبيل له الى احتسائها الا متتابعا, حتى اذا نام واستيقظ في السحر طلب الى نديمه ابي نؤاس ان يمده بالشراب وينشطه ببعض الأبيات, فكان يقول :

نبه نديمك قد نعس — يسقيك كاسا في الغلس

صرفا كأن شعاعها — في كف شاربها قبس

تذر الفتى وكأنما — بلسانه منها خرس

يدعى فيرفع رأسه — فأذا استقل به نكس

فيهش الأمين ليحتسي لليوم التالي وينعم بنشوته غير مبالي لحرمة دين ولا لوقار خلافة

لقد كثرت ظاهرة التخنث عند الرجال في العهد العباسي، وعندما كانت الرجولة تسقط عنهم، كانوا يلبسون لبس النساء ويتشبهون بهن في الحركات والكلام والتزين. كصبغ الشعر ووضع الحناء على الاظافر. وكان بالمقابل من يتشبه من الجواري بالغلمان لفتا لفضول الشباب.

صحيح ان صفحة الحياة في المجتمع العباسي كانت مثقلة بالفضائح الأخلاقية نتيجة السلوك المخزي لخلفاء بني العباس المتصف باستهتارهم بقيم الاسلام وثوابت القرآن، إلاّ انها كانت تقابلها صفحة اخرى مضيئة بشعر الورع والتقوى , ففي الوقت الذي كانت الحانات الليلية تعج بالفجار تفوح منها رائحة المعاصي والاثام كانت مساجد بغداد عامرة بالعباد يعلوها صراخ الوعاظ في وجه الخلعاء و المنحرفين ان يخافوا الله ويزدجروا. كما كان جماعة الشعراء الصالحين يدلون بقصائده الارشادية التي تهدف الى اصلاح المجتمع

* مقتبس من كتاب العصر العباسي الاول لشوقي ضيف . .

:

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here