تاريخ القاع وتاريخ الاكاذيب

حمزة الحسن

من هو الهامشي؟ شريحة أو شخص خارج الجماعة،
هو الحافة، البياض، المتروك، المهمل، المنسي،
أو “غير المرغوب فيه ، المثقف في مواجهة القبائل” :عنوان كتاب ريجيس دوبريه المفكر والروائي الفرنسي الذي أعتقل في غابات بوليفيا مع جيفارا وحكم عليه بالاعدام لكن الرئيس ديغول انقذه بعد سنوات سجن ومؤلف الرواية الرائعة :الثلج يشتعل .
في الأدب الهامشي يعني أدب الطبقات المسحوقة،
والهامش كل ما هو بعيد عن المركز،
المقصي والمبعثر والمنفي من الحضور،
والهامشي في السياسي المبعد عن المشاركة.
كل تاريخنا القديم والحديث هو تاريخ سلطوي،
تاريخ تكتبه سلطة ما أو حزب ما أو جماعة،
والهامشي في هذا التاريخ لا حضور له،
حتى يمكن القول نحن نكتب تاريخنا ونفسره بعقلية سلطوية
دون أن ندري أو نعرف حجم الخطيئة،
لأن كتابة التاريخ من فوق على أنه نشاط ورؤية سلطوية،
يعني الغاء وإقصاء طبقات القاع الاجتماعي،
وكما يفعل المُستَعمِر في تفسير وكتابة تاريخنا،
نحن دون وعي نفعل الشيء نفسه،
مع أن التاريخ الحقيقي يسكن في الهامشي والمقصي والمبعد،
هؤلاء في النهاية هم من يصنع التاريخ،
ليس فراعنة مصر من بنى الاهرامات بل عمالها،
وليس نبوخذ نصر من بنى الجنائن المعلقة بل عمال بابل،
لكن التاريخ السلطوي يقصي الهامشي لصالح المركز،
هكذا هو التاريخ .
السرديات الحديثة تركز على سيرة الهامشي،
او ما يعرف اليوم بـ “التاريخ من الاسفل HISTORY FROM BELOW ” وقد بدأ في بريطانيا اواخر الثمانينات ” مايكرو تاريخ ” التفاصيل المجهرية للافراد؛ وفي المانيا ” التاريخ اليومي ” وفي الهند ” تاريخ التابع” اي الهامشي في حين كل تاريخنا وحاضرنا مرويات سلطة واحزاب وجماعات ، اي التاريخ الرغبي المكيف ، اي اللاتاريخ. بمعنى مختزل : تاريخ الاكاذيب.
في العراق بدأ من أوائل القرن 21 ما يمكن تسميته بتاريخ الهذيان HISTORY OF RAVE حيث يستطيع اي مسلطن ومعتوه ومختل ونرجسي خفي ومنسي من نفسه ومن زبال الشارع والمختار ومن جاره ان يفسر الحوادث كما يرغب ويكتب سيرة الجماعات والافراد بلا تجارب ولا توثيق ولا منهج ولا معرفة بل حسب الرغبة والمزاج والحب والكره وهناك بيئة تبلع الهراء وهو واثق ان احدا لن يساله عن الدليل والبينة والوثيقة لان هذه الاسئلة لا تطرح في بيئة بلا ثقافة قانونية او في الاقل الحس الحقوقي الفطري .
الهذيان المعقلن المنظم بقشرة وطنية واخلاقية وشعرية
يمشي بين الغوغاء أفضل من الصدق المخربط .
العقل الملقن The teleprompter mind مصاب بعطب بنيوي لا يطرح اسئلة بل يتقبل كحاوية نفايات.
في روايتنا” حقول الخاتون” كان الراوي هو حوم الغجري الكاولي الذي لم يحق له الجنسية او اية هوية
لكنه يحمل هوية حصانه وعقد الشراء لكي يعرف نفسه :
لقد روى الجميع الحكاية،
الوزير والأمير والسفير والتاجر والفاجر والطاغية،
وحان الأوان للهامشي لكي يروي.
كررنا المحاولة في رواية” صرخة البطريق” حيث يكون رواة
الحكاية مجموعة من المشردين في خان يروون تاريخ العراق
الحديث كسائس خيل ونزاح مراحيض وهاربة وخرف،
ومن الغريب أن الخرف ينفتح على أحداث فضائحية نساها
يوم كان واعياً،
وفي” الأعزل” سردية الرعاة والعشاق والمنفيين والسجناء.
في رواية” حفرة فيراب” الراوي هو أخرس،
وهنا مشكلة كيف لرواية يرويها أخرس؟
من الممكن أن يكون الراوي مجنوناً،
ومن خلال الأخرس يتكشف القاع السري للبلدة،
يتوضح غير المرئي والمخفي والمنسي والمسكوت عنه.
كل سرد هامشي هو مضاد للسرديات السلطوية،
من سمع شهادات ضحايا المعتقلات والمقابر والموت الجماعي؟
في كل مرحلة من تاريخنا تحضر شهادة السلطة،
وشهادة الجماعات والأحزاب،
لكن الجزء الجوهري من العدالة غائب وهو الضحية،
بلا حضور الضحية تكون كل شهادة زوراً.
أين هو الأدب التشردي أو الرواية البيكارسيكية،
أو أدب الصعاليك الذي إنتشر في القرون السابقة
في العالم العربي؟
سيطرت سرديات نظم الحكم على كل شيء،
وصار التاريخ هو مروية سلطوية أو حكاية مقاهي،
وغاب الهامشي الصانع والضحية،
ومن دون وعي نمارس دور السلطة عندما
نتبنى حكاياتها وسردياتها،
ولا توجد سلطة في التاريخ تروي الحقيقة،
لا حقيقتها ولا حقيقة الحوادث،
والتاريخ يسكن المناطق المنسية في البراري
والاكواخ والمصحات وغرف العزلة والوحشة،
والزنازين وحفر الموت،
وما تحت الأنقاض والزوايا المهملة المظلمة من حكايات دفينة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here