فرات المحسن
تعريف لابد منه ” العولمة ظاهرة عالميّة تسعى إلى تعزيز التكامل بين مجموعة من الأبعاد والمجالات. وهي البعد الاقتصادي، والسياسي، والثقافي، والبيئي. مع بعد خامس أيدلوجي، وهو الذي يخترق الأبعاد الأخرى ويعطيها الصبغة النفعية. وتساهم العولمة في الربط بين القطاعات المحليّة والعالميّة، من خلال تعزيز انتقال الخدمات، والسلع، ورؤوس الأموال، وتهدف المنظمات والشركات من خلال هذا الانتقال، توسيع عملها ونفوذها ليتحول من محلي إلى عالمي، ومن ثم تحقيق نفوذها الدولي”
مهما بدت ذرائع الإدارة الأمريكية مقنعة في توجهاتها السياسية والاقتصادية الحديثة الموجهة لمنطقة الشرق وبالذات العربي منه، فأن النماذج الناتجة عن سوء التقدير والتوقيت الخاطئ وازدواجية المعايير وأولويات المصالح الرأسمالية والعنت والإجبار، جميعها تنمو مسببة الكثير من العوائق في وجه مشروع المستقبل الذي تريد الإدارة الأمريكية أن يكون حربا مدنية وبأسلحة معرفية واقتصادية، تخرج المنطقة من تخلفها وتزج بها في شبكة العولمة والنظام الرأسمالي المستحدث.
في هذا المنحى فأن الخطر الفادح الذي يواجه المشروع هو الخلط غير المبرر أو التغاضي المتعمد عن الاختلافات الجوهرية والكبيرة بين ما يعنيه (رفض العولمة نفسها أو مقاومة آثارها) بين أوساط المجتمعات الغربية وقريناتها المجتمعات الشرقية .
ففي الوقت الذي تناضل قطاعات وشرائح واسعة من الشعوب الأوربية ضد آثار العولمة وبعض مخرجاتها المتمثلة باللبرالية الجديدة والتي بنيت وفق ديناميات ممنهجة ومتصاعدة أدت لتغيرات كبيرة في البنى الاقتصادية، وبحسب ما تستحدثه من تشريعات لإزالة القيود والضوابط على التجارة وانتقال رؤوس الأموال . وطالت بتعدياتها الحريات الشخصية والنقابية، والأجور وظروف العمل.
ولمواجهة كل هذا وبشكل متصاعد تظهر وبأساليب سلمية حقوقية حركات مقاومة للبرالية الجديدة التي تشرع أحكامها لصالح الشركات، وما ينتج عن ذلك من تداعيات تسعى لتخريب الاقتصاد الوطني. مما دفع الشغيلة للسعي بجهادية عالية للنضال والعمل لأجل الحفاظ على فرص العمل والضمان الاجتماعي والصحي، وتوفير الدعم المالي الحكومي للضرورات المعيشية، واستمرار المحافظة على إنفاق عالٍ لتأمين بيئة طبيعية نظيفة وصحية ، ومنع الطرد الكيفي من الوظائف، والوقوف بوجه السياسات التدميرية التي تقوم بها البنوك المرتبطة بالمصالح الدولية للشركات عابرة القارات.
ومازالت هذه الاحتجاجات تتصاعد بحدة في العالم الغربي وخاصة في فرنسا وألمانيا وبريطانيا من أجل الحفاظ على المكاسب التي نالتها تلك الشعوب عبر نضال تأريخي طويل ، في نفس الوقت الذي تسعى للاستفادة من العولمة باعتبارها عملية موضوعية لا مناص منها، تشمل كافة مناحي الحياة وتفرعاتها العلمية والسياسية والثقافية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، وليس هنالك من بين هؤلاء من يدعو لمقاومة العولمة ورفضها بالكامل.
أما في الشرق فالمسألة تأخذ بعدا أخر. فمع المستوى المتدني لمعيشة الشغيلة بتنوع مهنهم ووظائفهم، وشيوع الاستغلال وتفشي البطالة والجهل، والصراعات العرقية والطائفية وتخلف وسائل الإنتاج وسؤ الخدمات، والتوزيع غير العادل للثروات، والثقافة الدينية المغلقة وموروث العادات والتقاليد، وتشابك وتداخل مفاهيم الدولة بالقبيلة والطائفة والأسرة وغيرها من المتعلقات القرطوسية .كل ذلك يدفع بشرائح كبيرة في المجتمعات الشرقية نحو رفض العولمة جملة وتفصيلا، والتحصن بواقع يرفض التحديث والاندماج بالعالم الجديد ويصر على محاربتها بالعديد من الوسائل ومنها العنف . وخير دليل على ذلك ظهور الحركات السلفية وعلى رأسها حركة طالبان ومجموعة القاعدة وأبو سياف وداعش والجولاني والخرساني وأمراء المسلمين في الجزائر ومصر وغيرها من الحركات الدينية التي تصر على إرجاع المجتمع إلى عصور السلف الذي عاش الظهور الأول للإسلام ، وترفع شعار (الدين هو الحل) و (الحاكمية لله ) وفق شروط وضعها الدعاة والملالي، ويتم ذلك عبر الترويج لهذه المفاهيم وفرضها بالقسر والقوة الغاشمة، ورفض حياة العصر الحديث وأدواته العملية العلمية والمعرفية . وهذا البعد يعتمد نظرية متداولة تحاول تكييف حياة البشر في الشرق المعدم والمتخلف، مع نمط الوضع القائم وإشكالاته، وفي ظل انعدام الموارد وشيوع الفقر وتخلف التعليم والثقافة. ومن هذا ينشأ الاختلاف في النظرة إلى العولمة واللبرالية والمعرفة والثقافة بعمومها بين العالم الغربي والعالم الشرق أوسطي.
نظر البعض من السياسيين الغربيين ، للمبادرة الأمريكية القائلة بتحديث الشرق،بعين الرضا وقدموا التأييد الفاعل لها، فقد أشاروا وأشادوا بها حين ظهورها وعدوها واجهة مهمة من الموجب الأخذ بها لتحديث منطقة الشرق الأوسط، وحينها تحدث السيد شرودر المستشار الألماني السابق بقوة عن ((ضرورة وضع عمليات التحديث والدمقرطة وإرساء الاستقرار في الشرقين الأدنى والأوسط موضع التطبيق بالتعاون مع الشركاء أنفسهم في المنطقة) .ودعا إلى عدم تجاهل حل النزاع الأسرائيلي الفلسطيني خلال تطبيق عمليات التحديث معلنا ((أن من غير المسموح أن يمنع أو يعيق هذا النزاع تحقيق آفاق أخرى من مثل المجال الاقتصادي )) .
لو أبعدنا مؤقتا مُسَلمة ضرورة حل النزاع الأسرائيلي الفلسطيني، وهو ما يشكل عصب التشويش والقلق على مستقبل المنطقة وعمليات التغيير الموجه إليها ،فأن التعبير الوارد عن التعاون مع الشركاء يثير الكثير من التساؤل عن المعنيين ( بالشركاء). ولكن في مجمل حديث السيد شرودر وقبله وزير خارجيته ومن ثم الكثير غيرهم من السياسيين، وقت ظهور المبادرة. تم التأكيد على أن الأنظمة الحاكمة الشرق أوسطية هي المعنية (بشركاء) محتملين في عمليات التحديث والدمقرطة المنوي طرحها كمشروع مستقبلي للسلطات والمجتمعات هناك . ولكن نظرة إحاطة للمشهد السياسي تؤشر وبشكل ناجز إلى كون العديد من الأنظمة الحاكمة، تشكل بالذات العقبة الكأداء في وجه الدمقرطة والتحديث، وإن مشاركتها وفق النمط اللبرالي المفترض يعد لوحده إن حدث معجزة،لا بل من المستحيلات في المنطقة.
وأن أريد فعلا تحقيق تلك المعجزات الديمقراطية، فالأولى البدء بتأشير بشاعات تلك الأنظمة الاستبدادية والحث على تغيير سلوكها اليومي، وطبيعة عمل مؤسساتها السلطوية، وكذلك قطع الدعم المعنوي المقدم لها من قبل الإدارة الأمريكية والعالم الغربي، ليتم بعد ذلك البحث الجدي عن المشاركة العامة في التغيير، ومن ثمة القناعة بحقيقة وصواب مشاريع الإصلاحات الغربية.
إذن فمشروع الشرق للديمقراطية والتحديث، إن أريد له السير في الطريق الذي ( لا ) تملي تعابيره (رغبة) الإدارة الأمريكية، سيواجه طريقين لا ثالث لهما، وهما خياران صعبان ومكلفان للغرب بشكل عام. الأول يتمثل بإزاحة تلك الأنظمة الحاكمة أو في الأقل إجبارها على تنفيذ برامج التحديث والتخلي عن الأساليب القسرية القمعية للسلطة، والثاني يتمثل بخيار إثارة المشاكل الداخلية عبر تصعيد التناحر أو الخصومة بين السلطات ومناهضيها، من التنظيمات والتجمعات والشرائح الاجتماعية، وحشد الحلفاء وتصعيد الضغط لتشتيت وشل قوى السلطة وقدراتها على الحركة.
ولكن الرغبة الأمريكية تختلف بعض الشيء في رؤيتها لمثل هذا لأمر عن بعض الشركاء من السياسيين الغربيين، رغم مقاربة بعض تصوراتها ونواياها من نمط تلك الخطط والمشاريع.ولحد الآن فان جميع تلك الخيارات تبدو مطروحة بحدة للنقاش والرغبة في التطبيق داخل أجنحة السياسيين الأمريكيين، ولكن أوجه الاعتراض تجعل القوى الراغبة بالتنفيذ تتوخى الحذر من انفلات الأمور نحو أجواء لا يمكن السيطرة عليها، أو تسبب الحرج والتشويش عند صناع القرار في الإدارة الأمريكية. ومازال درس احتلال العراق يعد المثال النموذجي للتخبط السياسي والتوقعات غير المرتقبة. لذا فأن رغبة البعض داخل الإدارة الأمريكية بمثل هذه السيناريوهات، يلاقي بعض الاعتراض والممانعة خوفا من التداعيات .ولحد الآن يفضل اعتماد الحكام المجودين كمنفذين للمشروع، وأن يكونوا عصب التغيير من خلال صفقة تراضي تدفعهم للاندماج والتعامل مع المشروع، ويتم خلالها التغاضي عن مساويء علاقتهم بشعوبهم. وهذا ما يجعل المشاكل تدور في ذات الحلقة المفرغة، ولن تكون نتائجها غير وبال يفاقم التردي الحاصل في جميع مفاصل العلاقة بين الشرق والغرب وأيضا داخل المجتمعات الشرقية.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط